/

مقالات نقدية

أنتولوجيا الابداع

هوامش الإبداع

حكاية من ساحة الشهداء بقلم القاص محمد مصطفاوي


حكاية من ساحة الشهداء
مساء المدينة حارق ، أشد أمسيات هذا العام حرارة ، من نقطة ما من نقاط الطرقات ، وطرقات المدينة أشبه بمتاهات خطوط لوحة سريالية مجنونة ، كانت تأخذ طريقها في اتجاه إحدى البنايات المهمة المتمركزة لأي جانب قصي من ساحة الشهداء،،،، هي امرأة في الثلاثينات ،، جذابة الطلعة ،رنة خطواتها كانت أكثر اضطرابا مما يؤكد أنها مستعجلة في أمرها لذلك لم تهتم لقطرات العرق الكثيفة المتصببة من العنق ، وعلى جبين الوجه القمحي ،، ربما اعتقدت في قرارة نفسها أن عملية سحب المنديل من جيب قميصها الفاتح فيه عناء جهد ومشقة ، لا طائل من ورائها تذهب الوقت هباء ،، وحينما وقفت أمام تلك البناية بطوابق عدة ، ولما وصلت الباب المقصود في أعلى طابق ضريت برفق عليه،،،،لحظات وكانت في الداخل ، صفق الباب من خلفها، مثل سمكة صغيرة يحتويها الموج أحتوى المكتب الفخم المرأة الثلاثينية ذات الطلعة البهية !
من الداخل ، كان الرجل المكتنز الجسم ، الأنيق ، يتحدث من مكتبه الذي يكاد يخفي بشكل فلكلوري كل معالم بنيته الجسدية !هو من صورة ملامح الوجه يباعد بسنوات قليلة سن المرأة الجالسة أمامه والتي وضعت كفها على وجنتيها في حالة استماع عميق وتركت اليد الأخرى منبسطة على سقف المكتب ، كان يحادثها بشكل يخيل إليها أنه لن يصمت أبدا  وكان يصدر حركات وإيماءات معينة في قلب الحديث يشير بها أنه يفهمها كلما كان يرى سمات عدم  اكتراث أو ضجر من ضيفته ، وكان عليها هي الأخرى أن تنتهر لحظة ما هاربة من حصار الكلام الرسمي لتفكك قطع الجليد فجاءت تلك اللحظة حينما تناول 

الرجل غليونه وأنشغل بحشوه بالتبغ لتقول :
((كل ما ذكرته يبدو جميلا! أنا لست منشغلة بالرسميات الآن ، الظرف صعب وأنت تعرف جيدا أنني قطعت كل هذه المسافة من شارع التحرير مقر عملي بالجريدة حتى هنا في شارع الشهداء ، وفي طقس حارق كهذا إلا للأجل أن الظرف صعب !؟زميلي المدير الكارثة ستقع لا محالة، هذه آخر تقديرات الخبراء،، بناية كاملة ستنهار على رؤوس السكان و لك أن تتصور حجم الكارثة ، لقد كتبت عنها في الجريدة حتى اعتقدوا أني سأرثها!
ولكن لا أحد تحرك في هذا الاتجاه ، أنت المدير والمشرف العام على مؤسسة التلفزة و باستطاعتك أن تنقل هذه الصرخة إلى الرأي العام !؟
استدار الرجل على الوجهة الأخرى وراح يحدق بشيء من الغرابة في زخارف وألوان جداريات الغرفة الشاسعة ،، كانت تتابعه بعينين جائعتين ، لبث المشهد باردا ، فأقلقها أن يفسد الشرود ما جاءت لأجله ، فلم تشعر إلا وهي تحكم قبضة يدها على سقف المكتب ، لم ينتبه لحركتها الطارئة وكأن حالة الشرود قد استولت على كل مجامع عقله ، راودتها فكرة أن تصرخ ، بسرعة حسمت الأمر صارخة ((منذ متى وأنت لست هنا؟!يظهر أنك تفكر في تغطية تلفزيونية ضخمة لهؤلاء الساكنين!؟))
اعتدل في جلسته و انفرجت أسارير وجهه الدائري الغليظ ،، ابتسم في فتور وهو يجيب ))هذا صحيح ماذا كنت تقولين ))!؟
انكمش جسدها إلى حد ما وأردفت بلهجة تقارب الاستخفاف فيها شحنة قلق ((كنت أقول ، ماذا كنت أقول ؟ آه ! كنت قد عرضت عليك عرضا مغريا تدشن به أولى أيام جلوسك على هذا الكرسي ،،

وما دمت يا صديقي قد طلبت مني إعادة ما عرضته عليك فإنني لن أفعلها ثانية ، أراك مرهقا وكذلك شارد الذهن ! نفث الرجل بعض من دخان غليونه ، بحلق بدقة في وجه المرأة وكأن به يكتشفها من جديد كان يرى فيها رقة الأنوثة تتحول إلى قطعة ساخنة من النار وقال :
(( لا أرجوك لا تلغيه من رأسك الجميلة هذه ! يكفي أنه عرض ولسوء طالعي لم أستمع إليه ثم في الحقيقة أنا لا أعرف مصدر هذا الشعور الذي ينتابني لحظة أراك!؟تساءلت وهي تمرر المنديل على وجهها وحول عنقها عن أي شعور تتحدث ؟!شعر بلذة غير محدودة من عطش غريزي قديم ، كان ينتظر منها أن تسأله عن مصدر هذا الشعور وتتعمق في التفاصيل سارع في الرد دون أن يتنازل عن البحلقة في وجهها :
(( الحقيقة أنني كلما شخصت في تقاطيع وجهك و استمعت إلى أفكارك القديمة ، أتذكر "فيروز " وكذلك يال الدهشة تشبهينها تماما !؟ لأجلك سأعطي تعليمات لمديرية البرمجة حتى تبث أغانيها يوميا ! وراح يدندن بمقاطع من إحدى الأغاني (حبيتك في الصيف حبيتك في الشتاء).
وجاء صوت الأنثى مقاطعا :
هل هو لذيذ فقط ؟إنه صوت قوي وفيه أصالة، ألا يذكرك كذلك برائحة الأرض وكبرياء النفس البشرية ثم أنا لم أطلب منك أن تثبت أغانيها أنا جئت لأجل عرض آخر ))
ابتسم بتكلف وبشيء من العناد قال :
سنتحدث عن هذا في فرصة معقولة ! ؟نقلت بصرها إلى الساعة الحائطية موحية لها بأنها غير مهتمة بما يقول ثم رمقته بعينين فيها انكسار الخاطر وصاحت ومتى ستأتي الفرصة المعقولة؟حينما يعزلوك مثلما فعلوا مع الكثير من قبلك وتعود إلى ركنك القديم بالجريدة لتكتب عن هموم 

الغلابى ! منذ سنوات أيها المدير وأنت تعرف جيدا هذه الحكاية جاءت بعثة التلفزيون إلى نفس العمارة, وكانت في بداية تصدعها لغرض التصوير ولكن لما جلسنا أمام الشاشة اكتشفنا هول التراجيديا!كانت الحصة تتحدث عن تاريخ العمارة, والآثار الرومانية المنقوشة على جدارياتها وكيف كان القدماء من سكانها يهتمون بلعبة تشبه إلى حد ما كرة القدم هل تتصور هذا؟ هل هذا معقول ؟))
لم يندهش لكلامها الثائر مثل الواثق من نفسه أعقب " وقتها يا آنستي لم أكن أنا هنا! لست مسئولا عن الماضي ثم هذا هو العرض؟ ماذا يهمني في هؤلاء ؟!
وانفلتت من الرجل قهقهات مدوية اهتزت لها أرجاء الحجرة ولم يتوقف إلا بعد أن انتفضت المرأة من مكانها واقفة، وقف هو الآخر مد لها يده كإشارة وقال يودعها بامتعاض شديد:
عموما أنا أشكرك على هذه الزيارة اللطيفة ! سأفكر في العرض جيدا !؟وعاد إلى نوبات قهقهاته الصاخبة.
تخلصت من يده بسرعة كان يشعر لمرافقتها حتى الباب غير أن جثته الثقيلة حالت دون ذلك كانت المرأة أسرع منه وأرشق وهي تأخذ طريقها إلى هنا, وحينما ضربت الباب بقوة كان هو مازال ملازما حالة وقوفه بجوار المكتب تزامن ذلك مع رنين الهاتف ارتمى عليه بلهفة استمع للصوت الهاتف له من الطرف الآخر:
" سيدي المدير بعثة التلفزة من باريس ..لقد فشلت في مفاوضتنا مع الفنانة والراقصة ميمي رغم كل تعليمات سيادتك برفع سقف الأجر والامتيازات إلا أنها اعتذرت عن المجيء لبلادنا بسبب موجة الحرارة ، آلو ،، آلو سيدي ! "
وقطع المدير الخط ، أعاد السماعة إلى مكانها بعصبية بالغة ،، ألقى 
بجثته على الكرسي وراح يحدق مرة أخرى في ألوان وزخارف جداريات القاعة وبكثير من الغرابة وبكثير من القلق المشبوه!؟
من بعيد ،، ومثل سمكة صغيرة يحتويها البحر ، احتوى شارع الشهداء المرأة الثلاثينية الجميلة التي غادرت لتوها مقر مبنى التلفزة ، والمساء يختفي رويدا رويدا من أيام أغسطس الحارقة أمام طلعة الغروب.