/

مقالات نقدية

أنتولوجيا الابداع

هوامش الإبداع

المدينة والذباب قصة بقلم قدور بن مريسي

منذ مدة والمدينة تعرف سحبا كثيفة من الذباب على شكل غزوات منتظمة أربكت السكان, وجعلتهم لا يبدون أي مقاومة, فجحافل الذباب في كل مكان لا تبصر العين لها أولا ولا آخرا، الحيتان الكبيرة حزمت أمتعتها على وقع الأسراب الأولى وهربت إلى الشواطئ اللازوردية والمنتجعات الجميلة، أما السردين والعوالق البحرية والمجبرون على البقاء فكانوا يفكرون في كيفية الحفاظ على المدينة من الوباء المريع الذي يتربص بها والتعايش مع جحافل الذباب بعدما سقطت المدينة في قبضته, حيث لا ماء ولا دواء وشمس هذا الصيف ترسل سياطها كأن بينها وبين أهل المدينة ثأر قديم.
الباعة المتجولون الذين كان صراخهم يشق عنان السماء بمكبرات الصوت انسحبوا ورموا مستحضرات رهجهم ومبيداتهم في عمق الوادي لما عزف السكان عن شرائها، قد استقبلوا جحافل الذباب كضيوف لا كغزاة وقدموا لها التمر والسكر والأشياء الحلوة على أمل عدم إيذائهم بالطنين والحوم على موائد الإطعام والإلحاح في الوقوف على الوجوه والشفاه والعينين، أما هو فقد اتخذ من مكبر صوت عتيق إذاعة للذباب راح يبث فيها نشرات خاصة بأخباره وأقوال مأثورة عنه كان مضطرا إلى فبركتها وقلبها للإشادة بخصال الذباب فقط دون ذكر مساوئه مثل الفم المفتوح لا يدخله الذباب: كمشة ذباب خير من جحافل النحل" مع لازمة كان يرددها دائما كفاصل موسيقي تقول يا مرحبا بزوارنا يا مرحبا " التي كان يرقص عليها الذباب وينتشي طالبا منه المزيد من الفكاهة والدعابة ، لقد تحولت حياة المسكين إلى جحيم لا يطاق ليس بسبب الذباب ولكن بسبب الجهد الذي كان يبذله طوال 

نهار كل يوم على أن يبيت الذباب.
لقد بلغ تعلق الذباب به تعلقا شديدا وهذا ماجعله يتحمل طنينه ومزاحه الثقيل ، كانت آلاف الذباب تتكدس على جسمه من رأسه إلى أخمص قدميه لتسمع وتناقش وتعلق على ما يقول وكثيرا ماكان لا يعي ماذا يقول:فمرة فاجأته ذبابة يبدو أنها مثقفة حيث سألته قائلة: لماذا تنطق مرة كلمة الذباب بالباء ومرة تنطقها بالنون؟فوجد نفسه يغرس تبريراته في صحراء قاحلة، لقد قرر أن يكافح العدو اللدود ـ حسب قوله ـ الذي جلب الذباب وهي الأوساخ والجيف والجثث البشرية المتعفنة والدماء، تهدج صوته وأصيب ببحة عرف لأن الشفاء منها يكمن في شربه عسل نحللكن حفاظا على مشاعر وأحاسيس الذباب استعاض عنها بالسكر والليمون كانت برامج إذاعته منوعة بمساعدة الذباب تتحدث عن الأسرة والأزياء والرياضة و...و، فقد تحدد عن خصوبة الذباب وكيف يتكاثر بسرعة عجيبة ؟ وكيف أن الأنثى تبيض المليارات من البيض خلال حياتها ؟ كما تحدث في مجال الأزياء والموضة عن جسم الذبابة الكحلي المتناسق, والكحلي هو ملك الألوان حسب الموضة وكيف تزينه جناحان رقيقان شفافان ، وعن بطولات الذبابة الرياضية من خلال سيرها على الأسطح الملساء بخفة ورشاقة وسيرها مقلوبة على السقف لمدة طويلة دون سقوط ، لقد حظيت إذاعته بإعجاب الجميع حتى أن قائد الذباب عرض عليه الهروب معهم لكنه رفض بشدة ، حين بدأت رياح الخريف بالهبوب بدأت أسراب الذباب في مغادرة المدينة دون أثر للفوضى أو مجاوزة لنظام أو إصابة بإسهال أو رمد ...نعم رفض الهروب رغم أن مصيره سيكون السجن أو الموت لأنه تعامل مع الأعداء،سيتركوه للذباب الأزرق لقد أسرّ له قائد  الذباب بسر وترجاه 

أن يكتمه مفاده أن جحافل الذباب التي يقودها لم تأت لغزو المدينة بل أتت للاستطلاع عن أماكن الجيف والدماء والجثث البشرية المتعفنة وهذا بأمر من قيادة الذباب الأزرق استعداد لغزوها لاحقا،قد اعددنا يقول قائد الذباب خرائطا توضيحية وأشرطة فيديو تبين المقابر الجماعية لآلاف النحل !!
وهنا انتفض كالمذعور وردد في استغراب :
ـ المقابر الجماعية لآلاف النحل!؟
ـنعم المقابر الجمعية لآلاف النحل المسكينة الضمأة التي ظنت السراب ماء.
ـ كيف ذلك؟
ـ ظننت زهور الياسمين الملطخة بالدماء ورودا حمراء أو شقائق نعمان فراحت تمتص الربيع المخدوع وترتشف المنايا،ألا تخجلون من أنفسكم!؟يجب أن تفهموا أن النحل لا يمكنه أن يكون " دراكيلا " ولا يمكنه أن يكون قُرادا ! لقد كنا نستلذ القمامة المتعفنة وقد أفقدتمونا الشهية خوفا من تسمم غذائي يقضي علينا !إننا لا نخاف المبيدات والمستحضرات الكيمياوية ولكننا نخاف الموت الرخيص في مدينتكم موت الفحشاء كما تقول العامة عندكم ! لقد فرضتم علينا حمية غذائية تتمثل في أكل المواد الحلوة فقط ولعلك رأيت جحافل الذباب لا تحط على قذارة ورغم ا يحدث من تطبيق لهذه الحمية الغذائية القاسية من إمساك وتلبك لأي الأمعاء وفقد للشهية إلى أننا مصرون على المضي قدما في فرص هذا النظام على الأقل على مستوى الذباب العادي، وبالفعل رحل الذباب عن المدينة واحتفلت الحيتان بسهرة غنائية راقصة في الساحة العامة ليلا حضرها التلفزيون ونقلها على المباشر تحت عنوان 


" سهرة التحرير " أحيتها الراقصة "ريمة "، عرفنا ذلك بعد أن ظهر ذلك الشاب الذي دافع عن المدينة بميكروفونه العتيق ذات يوم،يحمل ميكروفونا آخر ويقرأ على الحاضرين برنامج السهرة ويستعرض من غير داع سيرة حياة الراقصة ريمة التي قيل أنها تخرجتم من مدرسة الحياة وكيف أنها نشرت موضة الرقص الشرقي في كامل أنحاء العالم ، وكيف أنها أخضعت جسمها لريجيم قاس هذا الصيف أقدها بعض ( الانتشات) في البطن والأرداف كي تمتعنا بحركات واهتزازات تولد حالة أشبه بالتنويم المغناطيسي المقاوم للاكتئاب ! ثم أضاف : صدقوني ( الأرداف لا تكذب ) تثاءب وفرك عينيه فاسحا المجال لنجمة السهرة ريمة.
لقد عرفنا أفضالك علينا يا فتى فعرفهم بأفضال هز البطن صاح بها أحد المتفرجين واقفا من المنصة الشرفية وهو يلوح بيديه لعدسة الكامير