/

مقالات نقدية

أنتولوجيا الابداع

هوامش الإبداع

امرأة مبتورة قصة قصيرة بقلم حسيبة موساوي

              امرأة مبـــتورة             
          
منذ طفولتي وأمي تطوقني باللّحن المفتول من عقدها.. من ألوانها.. من زهرها.. من عشقها.. من كلّ النساء، كنت أصنع الفرح من قطع فستانها الغجري، الذي طالما أحبته عندما كانت شابة تحمل عشق أبي ألوانا قاتمة وأخرى سماوية، كنت أصنع الفرح من أثوابه.. من شعرها الخمري المرسل.
أحببت الخروج من المدرسة ميكرا على غير عادة هؤلاء الصبيان الذين كانوا يتفرغون لقذف كرة القدم بين أرجلهم .. يروحون ويجيؤون لا يهمهم انتظار والدتهم لهم.. امرأة الفرح التي كانت تسكنني عندما كنت طفلة تدعوني كلّ مرّة أن ألبس أمي؛كثيرا ما كنت أغتصب مقصا من خزانتها أصنع منه فرحي، كم كان يدهشني برقصاته الغجرية فوق فستانها!!.. 
 متعتي كنت أجدها حين أحمل ذلك المقص بيدي اليسرى وأتركه يتلاعب بين أصابعي تارة وبرقصاته فوق فستان أمي تارة أخرى، كنت يسارية ؛ تتعبني اليمنى حتى النخاع ويتعبني إلحاح أبي وهو يردد:
- "عليك حمل الأشياء باليمنى"، تتعبني.. ترهقني اليمنى كان من السهل علي أن أمسك ملعقة أو فرشاة باليمنى ربما لأنني كنت أراها أشياء بالية ليس لها ثقلا على العقل على عكس تلك الأحلام التي كنت أصنعها من فرح أمي.. من زهر أمي، كنت عاشقة لفساتينها البالية، عاشقة حد الجنون لشعرها الخمري المخبول، لقد كان طويلا جدا تتسلق فيه كل أحلامي وكل عقدي وكل أفراحي، كم كانت تعجبني تلك العقد المفتولة، كنت أصنع منها فرحي عندما تدعوني كل مساء لفكها بيدي اليسرى؛ الوحيدة التي كانت تعشق هاته اليد التي طالما كرهها أبي وتمنى استئصالها، الوحيدة التي كانت تدعوني لإقامة الفرح فوق تضاريسها وفوق ألوانها حينما أحمل المقص بيدي اليسرى وأمرره على فستانها الزاهر، الذي طالما حلمت أنني امرأة فرح تلبسه مع كعب عال كان لأمي، قد يعثكلني مرة ويدير قدمي مرة أخرى ورغم ذلك أصر على التكرار فأعاود الكرة تلو الأخرى حتى استقام عودي، امرأة الفرح التي كانت تسكنني تدعوني أن ألبسه وفستان أمي الذي عشقته- بعدما سئمته أمي عشقته أنا داخل أفراحي-، صنعت منه قطعا أشباه نساء ورجال، عفوا؟؟ نساء كثر ورجل واحد، كنت أنا عاشقته ؛ رجل من قماش، من فستان أمي، وضعت القطع جانبا وخرجت من البيت أبحث عن أعواد كبريت حتى أصنع منها هيكلي، هيكل امرأة الفرح والرجل من القماش .
امرأة الفرح أنا في ثوبي الطفولي، عاشقة الزهر أنا من لوح أمي، كم أعشق ألحانك ياأمي !!؟ الممتدة داخل بيتنا الكبير في قرية صغيرة، كثيرا ما كنت أراه يعانق السماء وحده بين الأكواخ والأشجار، كانت الشمس تبعث ضياءها في سفح السماء ورائحة التبن المعروق المحروق تملأ رئتي الصغيرتان نسمة عليلة، كنت أعشق تلك الرائحة؛ حينما كان يختلط عود الكبريت والغبار المكوم فوق الأرض حتى يولد ذاك الإحتراق فأرتحل معه إلى تلك الجزر المنسية بعيدا عن مثلث بيرمودا، تستهويني بقايا الأرض وبقايا الغنم المترامية كحبات الزيتون فأختار منها ما أختار وأترك ما أشاء للأرض العطشى حتى أكمل فرحي.. أمسكها جيدا بقطف من فستان أمي لأعود من جديد ألف تلك القطع على الهيكل حتى يصبح ممتلئا حينها أحمل قطعة أخرى أصنع منها الرأس واليدين، هاقد اكتملت تلك اللوحة الممزوجة بكل الألوان لم يبق غير عقد من شعر أمي سأصنع منها الشارب لرجل القماش.
أخيرا إكتمل رجلي من القماش بشاربه المفتول المصنوع من عقد أمي وامرأة القماش المبتورة من فستان أمي قطعا قطعا والمحشوة بأغصان الشجر الهشة والغبار المعروق.
امرأة الفرح التي كانت تسكنني تفكر في أعمدة البيت الذي سيقيمان به حتما فلم يكن بالعسير علي إقامة ذلك البيت ما دامت يدي اليسرى تتحرك باستمرار وتبعث بأناملها الفرح من أثواب مخرقة، لكنها محملة بالإبداع، كل شيء يصنعه الفرح.. الأمل.. البراءة حتى أمي تقول في بعض الأحيان النية هي التي تصنع الفرح.
ها هو البيت قد اكتمل في لمح البصر، يا لفرحة امرأة الفرح والرجل من القماش؛ السقف.. الأرضية، الجدران الكرتونية، كل هاته النغمات سيرقصان فوقها وفي بعض الأحيان يتشاجران، وحدها امرأة الفرح تشد العقد وتصنع من صمتهما حديثا مسترسلا، أيامها كان يتحرك كل شيء من حولي بأنامل صغيرة وجسد صغير وحلم كبير أصنعه من عقد أمي، ليت الأيام بقت على حالها وبقت امرأة الفرح تسكنني وبجوارها الرجل من القماش حينما كنت أنفخ فيه من حبالي.. من عقدي فيصدر صوتا دافئا أحيانا وخشنا بقية العمر، المهم أنني أنفخ فيه من أنوثتي، من متعتي.. أبعث فيه من روحي، المهم أن يتحدث إلى امرأة الفرح، يشعرها أنه موجودا بشاربه وقطعة منها ومن عقدها، ليتني لم أخرج من فستان أمي.. من قطعها البالية.. من عقد شعرها الخمري.. من طيفها.. من حلمها.. عشقك يا أمي سكنني وأسكن داخلي رجل منك .
كبرت امرأة الفرح داخلي وراحت تزرعني امرأة أخرى ليست في حاجة إلى الحلم وإنما بحاجة إلى بلاطات مرقعة تضربها بكعبها العالي، تريد أن تمسك بالأشياء فلا تطير في الهواء ولا تقع فتتفلت منها، كبرت المرأة التي كانت تسكنني يوما مع كل عقد أمي وأصبحت امرأة ناضجة وأيقنت حينها أن المرأة التي كانت تسكنني وأنا في ثوبي الطفولي امرأة مجنونة وأنا المرأة الآن العاقلة... لا أشبهها ولا أحب أن أكون هي وإنما أحب أن أكون امرأة تسري داخلها الحياة تبحث عن شريك ينفخ في الحياة فيجعلاها مليئة بالدفء، بالكلام وتبقى مساحة البوح بينهما فيقول شيئا وتقول أشياء .      

ــــــــــ
* روائية من الجزائر

  1. أظن أنها خاطرة جميلة ... لا قصة قصيرة ... بوركت حسيبة على هذه التعابير الجياشة ...

  2. جميلة جدآ أحلامك الطفولية وهي تصنع الفرح من البراءة ...

Organic Themes