/

مقالات نقدية

أنتولوجيا الابداع

هوامش الإبداع

رماد الشرق لـ واسيني الأعرج الاحتفاء بالحياة وتمييع فكرة الحرب بقلم الدكتورة رزان إبراهيم

” رماد الشرق” لـ واسيني الأعرج … الاحتفاء بالحياة وتمييع فكرة الحرب – بقلم : د. رزان إبراهيم
 * طمحت الرواية كما السيمفونية إلى إعادة فهم معاناة العرب في تاريخ تحررهم وسعت إلى تقديم ما ينفي فكرة وجود شعوب ذكية وأخرى غبية                                     
  خاص موقع الجسرة الثقافية الاخبارية الالكترونية ـــ ” رماد الشرق” للأديب الجزائري واسيني الأعرج رواية تستعيد قرناً من الحياة العربية طارحة إمكانية فهم معاناة العرب في تاريخهم المعاصر منذ الثورة العربية الكبرى وانحسار الحكم التركي, وما واكب ذلك من تخطيط مبيت لإعادة رسم الخريطة العربية. مروراً بنكبات متتالية على الشعب الفلسطيني. انتهاء بحادثة انفجار برجي نيويورك الشهيرة. ويمكن النظر إليها باعتبارها واحدة من السرديات الكبرى التي تشتد الحاجة إليها في أوقات تتعارض فيها وجهات النظر, أو في أوقات تصل فيها الأمم إلى مفارق الطرق كتلك اللحظات التي نعيشها الآن.
والحديث عن رواية تاريخية يقتضي محددات بعينها تنأى عن تقديم التاريخ جامداً كما تفعل الكتابة التاريخية حين قدمته جامداً وبارداً. هنا تأتي هذه القراءة لتضع يديها على الكيفية التي مكنت الروائي من إطلاق فعاليات قارئها ليتفاعل معها على نحو إيجابي, في وقت كان الحرص فيها بادياً على المحافظة على سلطة المؤلف وقصديته. ومن هنا كان لا بد من تسليط الضوء على وسائط فنية اعتمدها الروائي لتحقيق هذه المعادلة الصعبة.
في انشطاره بين الحقيقي والمتخيل, أو بين صيغتين من صيغ التعبير, نجد الروائي وقد أتقن عملية إعادة حبك المواد التاريخية مخضعاً إياها لشروط الخطاب الأدبي, وهو ما أمكن تحققه عبر حيلة فنية كان لها دورها الكبير في إيجاد مركز ناظم للأحداث التاريخية, ونحن هنا نتحدث عن مشروع لسيمفونية عظيمة يسعى بطل الرواية جاز إلى إطلاقها, لأكثر من غرض. أبرز هذه الأغراض هو الحكي عن حقائق تاريخية مفزعة عن عالمنا العربي. في البدء يبحث في كتب التاريخ, لكنه يحس بوجود تصدعات, وفي زيارته لأحد المعارض تلفته صورة رآها عند جده التقطت لأشخاص معلقين على أعواد المشانق. وهو يعرف أن جده كان قد شهد والده على مشنقة جمال باشا في ساحة البرج, فما كان منه إلا أن يسافر إلى جده في توليدو بولاية أوهايو باحثاً في أرشيف الجد,  ويبقى اكتمال السيمفونية مرهونا باكتمال هذا الأرشيف.
يأخذنا العمل تجاه عائلة بابا شريف عبر مسيرة طويلة بدءاً من رحلة طويلة يقوم بها شريف بعد حادثة الأعدام هو وأمه من بيروت إلى فلسطين. وهو ما يترك المجال واسعاً لتسليط الضوء على مآسي الشعب الفلسطيني في إطار جدلي عميق. نرى خلالها شريفاً وقد غدا مجاهداً تعتدي الهاجاناة على عائلته وتقتل زوجته وأمه بينما تنجو ابنته.
وتحضر العلاقة مكينة هنا بين أحداث متسلسلة مخطط لها على الصعيد الخيالي أو الحقيقي, وهو ما يستدعي قولاً بأن هذه الأحداث تعكس خاصية عالم يحاكيه الفن. لذلك ما إن اشتعلت الثورة العربية الكبرى وانتهى الاستبداد التركي حتى يأتي الاحتلال الغربي ويقسم البلاد بعدها لتصبح فلسطين هدية للحركة الصهيونية. ومن ثم تتالى الخسارات القاسية منذ النكبة وحتى حادثة تفجير البرجين الشهيرة. وهو ما بدا لحظات مفصلية شبيهة بتلك التي ينظمها جاز في سيمفونيته. وهو مؤشر هام يحيل إلى كتابة واعية بتاريخ يحمل الكثير من التجارب الإنسانية, مما يجعلها قادرة على تفسير المذاهب الإنسانية والنظر إلى الطبيعة الإنسانية والتطور الإنساني بمفهوم الوحدة العضوية. ومن هذا المنطلق تحضر الإبادة الجماعية للعنصر السكاني الأصلي التي فتح كولومبس أبوابها  لتكون فكرة متكررة عبر العصور؛ فلكل عصر كولومبس وظيقته السمو الحضاري بالرعية المتخلفة بإبادتها وسرقة خيراتها.
باعتبارها أصلاً هاماً في النسيج الروائي, وباعتبارها الوسيلة الأهم لخلق الحدث الروائي,  يلمس قارئ هذه الرواية شحنة حوارية عالية تؤسس لوجهات نظر مختلفة تعكس تفاعل نظامين في الفهم, وهو ما كانت له تجلياته عبر تنوع كلامي عدّه باختين خاصية أساسية في الرواية الناجحة. أكثر من قضية يتم تداولها في الرواية, يلقي صاحبها حملها على شحصيات تقوم العلاقة بينها على الائتلاف والاختلاف مع تشديد على البعد الاختلافي. إلا أن القارئ يبقى قادراً على التدقيق والموازنة لغرض الكشف عن المسار الفكري الذي يتبناه المؤلف.
واحدة من هذه القضايا على سبيل المثال تنصب حول الاحتفاء بفكرة البقاء والإعلاء من شأن الحياة لدرجة تمييع فكرة الحرب. وهو أمر لا يمكن تأكيده أو نفيه إلا بالجمع بين أكثر من شخصية عبر مسارات مختلفة, لنتوصل بعدها إلى انحياز لموت مشرف, حتى ولو كان الثمن غالياً. وهو ما يمكن تمثله عبر كثيرين اختاروا الموت بعزة وكرامة على حياة ذليلة( يوسف العظمة, عبد القادر الحسيني, البطل  نفسه..). كذلك قُدم الموقف من الأتراك عبر أطروحات متعددة, بعضها يرى فيهم جزءاً من الأمة الإسلامية, قدّم من الحضارة ما يصعب إنكاره. في وقت لا يعفى فيه الأتراك من مسؤولية إيقاع العرب في التخلف والظلم معاً, فإن الرواية لا تهمل أخطاء إنسانية ارتكبت بحق الأتراك أثناء الثورة العربية, كان على رأسها  لورنس العرب حين أمر بدفن الكثير من الجرحى من الجنود الأتراك وهم أحياء ورمى عليهم الجير.
كذلك تحضر مسألة المفاضلة بين الإنجليز والألمان بين شخوص الرواية الذين تمنى بعضهم من المقدسيين هزيمةً ماحقة لإنجلترا لأنها سلمت فلسطين للصهاينة, في وقت تمنوا فيه انتصاراً لألمانيا ظناً منهم أن هذا النصر يحققق نهاية للفكر الصهيوني. ويأتي مسار الرواية ليثبت لنا أن خطر النازية في نهاية الأمر مثله مثل خطر الاستعمار أو الصهيونية. كل منهما يمارس تعالياً ويرتكب جرائم بحق الإنسانية.
ظاهر الأمر إذن أن الشخوص تتحرك وفقاً لتصوراتها بعيداً عن تصورات الروائي, لكن في العمق يبقى بالإمكان تحديد وجهة نظر راو يعمل في الخفاء ويوجه القارئ نحو مركز واحد للرؤية ويطمس ما بدا توزيعاً متكافئا للمواقف, وذلك عن طريق علاقة خاصة تربط خطاب الراوي بخطاب الشخصيات. كما كان بالنسبة لراو- شريف جد جاز- ينقل ويعلق بالسلب والإيجاب. على ( إبراهيم خال شريف) ويكرر عبارات الثناء له.
في ظل مواقف حوارية بعينها يغدو أمر الحسم مطلباً لبعض القراء, من مثل الحديث حول حق تاريخي ثابت في فلسطين بعيداً عما نراه أوهاماً مختلقة لا مجال للحوار فيها. وهو ما يمكن التدليل عليه حين تحضر راشيل اليهودية لتقول حائط المبكى, بينما أراد البطل أن يقول حائط البراق لكنه تراجع. أو حين تتحدث راشيل عن مجانين يتقاتلون على حجارة ميتة. ويتمنى البطل ذاته لو قال لها إن هناك حروباً ظالمة وأخرى معتدية ولكنه لم يفعل. ويبقى للقارئ حقه في الائتلاف مع جمل حاسمة ترفض كل من جاء من اليهود إلى فلسطين وأقام فيها, بل وعدّه عدواً مؤكداً مهما كانت ادعاءاته. كما يحتفظ بحقه في الاختلاف مع جمل أخرى تتعارض وخلفيته المعرفية أو الثقافية.
يلفت القارئ في ” رماد الشرق” اتصال يقيمه الروائي بين المبدع والقارئ من خلال صورة فنية بطلها مكان يأخذ طابعاً ذاتياً بعيداً عن الطابع الهندسي. وإن كان الحديث عن جماليات المكان مسألة رئيسية في علم الجمال, فإن هذا الأمر يبدو متحققاً في مكان بابا شريف في توليدو, حيث يقضي أيامه الأخيرة مستنسخاً المكان القديم في الشرق بأجوائه العبقة برائحة الياسمين, ورائحة الهيل والقهوة الأندلسية. بل إن صندوق الذاكرة بكل أحزانها ينقل بابا شريف وينقلنا معه – حسب تعبير باشلار-  إلى بيت الطفولة الذي ولدنا وتشكل خيالنا فيه, وحين نبتعد عنه نظل دائماً نستعيد ذكراه, مما يعطينا إحساساً بحماية وأمن وفرهما لنا هذا البيت في يوم من الأيام.
والرواية كما السيمفونية التي يبدعها جاز, تعمل جاهدة على استقصاء شروط تاريخية في الزمان والمكان اللذين تقع فيهما لحظة التلقي, بما يكسبهما معاً صفة المعاصرة غير المتعينة  بزمن الأحداث الدرامية, وإنما برؤية درامية متعمقة. تستعين بأدوات العصر, وتدرك أهمية جمهور يتلقى ويعلق. فمما لا شك فيه أن للفنان- موسيقياً كان أم روائياً- تجربته عما يفعله القارئ أو المتلقي. ومن هذا المنطلق قام جاز بدمج التسجيلي السياسي بما هو إنساني جمالي معاصر, كما استعان بأرشيف وشاشة تمثيلية تقول التاريخ الذي تتحدث عنه السيمفونية. وكان أمر ملامسة الحساسيات الكبرى لدى البشر في مفدمة ما يجب أن يفكر فيه الفنان, لذلك اختار جاز في سيمفونيته خاتمة مثل نيويورك لجون كندار. كي تعطي إيقاعاً متفائلاً في وقت كان الشعب الأمريكي فيه يعيش محنة برجي التجارة. ومن ذات المنطلق كان لا بد من رحيل نحو فضاءات من الحرية؛ فالزمن تغير وإذا لم نفهمه سحقنا مثلما تفعل السيارات يومياً ملايين المرات مع الحشرات. لذلك بدا المقطع الختامي للسيمفونية متحرراً من كل قيد نظامي وإيقاعي.
مهمة الروائي والفنان عموماً تقتضي إيقاظاً للمشاعر؛ أما سرد الأحداث التاريخية, فهي من مهام المؤرخ. وهناك فرق بين مؤرخ يكتفي برصد الإنسان من حيث الفعل التاريخي وحده ونتائج هذا الفعل على المستوى المادي الملموس, وبين روائي ينحو باتجاه دوافع نفسية وجدانية قريبة من روح الأديب. من هذا المنطلق عشنا في إطار دوافع اجتماعية وإنسانية نقلت لنا مشاهد مؤثرة لبشر قبل ساعات من إعدامهم؛ تتراوح بين ضحك يوحي بمفارقة من يندفع نحو الموت وهو يقاتل من أجل الحياة. وبين إحساس طبيعي بالخوف لحظة التفاف حبل المشنقة حول رقبة سليم والد شريف, الذي بقي لديه أمل بأن السفاح لن يفعلها. وبقي تأويل الرموز قائماً بما يحمله من تخفيف لمعاناة من هو مقبل على موت يبكيه عليه آلاف الرجال والنساء, بدلاً من موت على سرير يبكيه فيه الأهل وحسب. ولا يغيب عنا في هذه المواقف مرحلة استقبال حسي مثير بإيحاءات سيكولوجية انتقلت لنا عبر صور سمعية ( أصوات خشخشة الأحذية), ( أنفاس تتقطع).  و صور بصرية ( أبواب حديدية ثقيلة). وصور شمية ( روائح كريهة تملأ جوانب سجن عاليه).
في هذا السياق يُذكر للرواية أن تقديماً للشخوص كان حريصاً على رصدها إنسانياً عبر لغة قادرة غلى تلمس أبعادها المركبة. وهو ما كان أثناء تقديم الأمير فيصل, حين نقلت لنا شعوره بالخواء حين تبين له أنه كان أضحوكة للإنجليز. وكانت قادرة على تقديمه إنساناً شجاعاً حين يتعلق الأمر بالأتراك, وعكس ذلك حين يتعلق الأمر بالإنجليز. علماً أن انغراس الروائي في المكون النفسي الداخلي للشخوص المتخيلة بدا أكثر عمقاً من انغراسه في شخوص تاريخية كان لها قوامها على الصعيد الوظيفي الخارجي ( لورنس العرب, اللنبي, يوسف العظمة, جمال باشا).
في أكثر من منجز روائي لواسيني الأعرج, يبدو أمر التآلف بين الفنون وسيلة من وسائل تأثيره على القارئ, وهي الفكرة التي أراد من خلالها أن يؤكد لنا أن الفنون برمتها غير منقطعة عن عالم تتخلق فيه. لذلك تدحرجت لوحة ” خريف نيويورك” ساعة انفجار البرجين, وسقطت وتكسر زجاجها. وكذلك انشق الكمان وتطايرت أسلاكه. وفي هذا الباب أيضاً تدخل فكرة الانسجام بين الصوت والمعنى في السيمفونية. في نفس الطريقة التي انسجمت فيها اللغة والحدث الروائي. لذلك تغيرت الآلات الموسيقية المصاحبة وفقاً والحدث المعبرة عنه؛ ( الطبل للتعبير عن الحروب, آلات النفخ للتعبير عن الحس التراجيدي, ألة الموندلين الشرقية المليئة بالحنان). كلّ في موقعه.
ولا ننسى في الرواية حضوراً أنثوياً كان قادراً على كسر حدة الخطاب التاريخي, وهو ما يأتي منسجماً وفكرة تفضي بأن المرأة أكثر خصوبة من الناحية الفنية من الرجل. ومن هنا تأتي مانيا لتخفف عن شريف حالة الفقد التي أحس بها حين دخل فلسطين. وتأتي يما صفية بصوتها الجميل لتحدث أثرها اللطيف في صيرورة الرواية.
لم يغب عن هذه الرواية سمت أخلاقي يسعى إلى إنصاق فئة ظلمها تاريخ جرت العادة أن يكتبه المنتصرون, فالأدب كما يقال يتطرق إلى المهزومين ويعبر عنهم, وهو ما عبّر عنه سليم قبيل إعدامه بالقول إنه سيأتي من يدعي أنهم كانوا خونة ومتعاطفين مع فرنسا وأنهم تناوروا لقلب النظام, لكنه كان على دراية بأن هناك من سيأتي ليكتب عن السفاح أشياءه الفظيعة.
عموماً, واستناداً إلى نظريات قراءة آمنت بوجود استراتيجيات إقناع تستحث القارئ على إعادة تقييم العالم, طمحت الرواية كما السيمفونية إلى إعادة فهم معاناة العرب في تاريخ تحررهم, وسعت إلى تقديم ما ينفي فكرة وجود شعوب ذكية وأخرى غبية.
أخيراً نقول: كان الفن من وجهة نظر الروائي وسيلة من وسائل منع الموت من الانتصار على الحياة( هزمتك يا موت الفنون جميعها). وحين مات بابا شريف انسحب الموت تاركاً روحه لتواجه الموت بشجاعة بعد أن تحققت رماد الشرق ” سيمفونية هي هدية لكل من انتزع من أرضه الأولى. أو قتل ظلماً. نشرت دفئها رغم ما احتوته من ألم موحش.  ولم تكن أبداً  درساً في التاريخ ولا في قسوة الجغرافية, ولكنها درس في الحي اة التي يجب أن نحافظ عليها بقوة…..صحيح أن الموسيقى كما تقول الرواية” لا تدفئ طفلاً يموت برداً ولا تطعم جائعاً ولا تحرف رصاصة ملتهبة عن مسارها القاتل …ولكنها رهاننا الكبير لزرع قليل من المحبة بين الناس والتأمل عميقاً في دواخلنا التي لا نزورها إلا قليلاً”.
* أستاذ نقد أدبي حديث ـ   جامعة البترا الاردنية