سلطانة والعاصفة دراسة نقدية بقلم الدكتور عامر مخلوف

ـــــ بقلم الدكتور مخلوف عامر*
أحبَّائي، خطر ببالي أن أعود هذه الأيام إلى قراءة القصة القصيرة مدفوعاً بجملة من الأسباب أهمها:
الأول: أني منذ اقتنيْتُ بعض الأعمال من معرض الكتاب في العاصمة انكببت على قراءة بعض مما يُسمَى روايات. واكتشفتُ لاحقاً أن منها ما كان مضيعة وقت لا أكثر. إذ عندما فُتح المجال لبعض الناشرين غايتهم الربح السريع وغاية المدعو كاتباً أن يتوجًَّه إليه بكومة من الأخطاء والتهويمات، وربما بمبلغ مالي أيضاً ولا تجد من الجنس الأدبي الذي اختاره غير ما كُتب على صفحة الغلاف، أحسسْت ُ أني في موْسم الهجرة إلى الرواية بحثاً عن شهرة مفقودة.
الثاني: أكَّد قناعتي بأن الشعوب التي تحترم نفسها وتدرك معنى الحضارة والتحضُّر لا تفرق لديْها بين جنس أدبي وآخر مادام إبداعاً، كما الفرد الذي يحترم نفسه أيْضأًً، فهو -بالإضافة إلى إدراكه أنه موْهوب في فن ما، رَضَعه وتربًَّى عليْه واستمر يمارسه مدة غير قصيرة-لن يتخلّى عنه. ذلكم ما حصل مع القاصة الكَنَدية "أليس مونرو" التي نالت جائزة نوبل، لأنها ارتبطت- طيلة حياتها- بكتابة القصة القصيرة فأتقنتها. بصرف النظر عمَّا يكون لَديْنا من تحفظات عن طبيعة هذه الجائزة.
الثالث: أنه ورد إلي سؤال من الصديقة الصحفية" نوارة الأحرش" عن أسباب خفوت بريق القصة القصيرة في الجزائر ضمن استجواب سبق أنْ نشرته جريدة النصر.
فكان مما وقع بين يديَّ هذه المرة مجموعة "قلولي بن ساعد" (سلطانة والعاصفة).
بعض القصص في المجموعة مؤرَّخة وبعضها الآخر بلا تاريخ. وأول قصة تعود إلى سنة 1991. فإذا ما علمنا أن المجموعة صدرت سنة 2009أمكننا أن نتصوَّر الفترة الطويلة التي استغرقها "قلولي بن ساعد" لكتابة إحدى عشرة قصة مطبوعة. فلعلَّ كتابة القصة بالنسبة إليه نزوة قد تأتي وقد لا تأتي، أو أن انكبابه على متابعة الحركة الأدبية بانتظام ومساهماته النقدية قد أخذت منه الوقت الأوْفر.
إذا كانت القصة القصيرة لحظة حياة يلتقط فيها القاص ما يبدو له مُهمّاً، فإنه –لا محالة – مضطرٌّ إلى الاختصار، بل إلى الاختزال بحيث يستغني عن كل لفظه يمكن الاستغناء عنها، ما يجعل القصة القصيرة أقرب إلى الشعر. والقاص "قلولي" في هذه المجموعة يجمع بين التكثيف واللغة الشعرية فيحقِّق هذه الخاصية بنجاح.
يتبيَّن من خلال موضوعات المجموعة أن القاص مشدود إلى بيئته المحلية ثم الوطنية ثم الإنسانية.
فهو ابن الصحراء، طالب جامعي يسجل يومياته، كان متشوِّقاً إلى المدن الشمالية، ولما عاد مفْعماً بالحنين إلى ماضيه وإلى الفتاة التي عرفها يوماً في الغابة، وجد أسرته قد انتقلت إلى بيْت جديد. فيه الأخ المولع بمتابعة كرة القدم والأخ المتزوِّج والأم والأخت. لكن زوجة أخيه مصطفى تعاني من مضايقات حماتها وابنتها. ثم يخرق لديْك أفق الانتظار حين يرى زوجة أخيه وإذا هي الفتاة التي عرفها من قبل فلا يملك إلا أنْ يشيح كل منهما بوجهه عن الآخر في صمت قاتل.
وهو الإنسان الذي يوجد في بيْته وحيداً يتوقع هجوماً إرهابياً في أية لحظة فيجعلك تعيش لحظات من الخوف والقلق منشطراً بين أن تفتح الباب أو تنتحر، فقد يكون (الانتحار) أهْون من مصير أقسى وأمر.
وتجده يصوِّر وضعية هذا الطفل البريء الذي يحرمه رفاقه في الحي من اللعب معهم لأنه (ابن فاسدة) كما شاع عنه بين النساء والأطفال. وحين تزوره والدته- وهو يعيش لدى جَدَّته- تتهرَّب من أن تجيبه عن طبيعة عملها، إلى أنْ تهدي له يوماً كرة مُلوَّنة وتَعِده بأنهما سيسكنان معاً. فيكون ذلك مجلبة لأطفال الحي جميعا، إلا واحدا طرده، لأنه كان دوماً يعيِّره ويتسبَّب في حرمانه من اللعب.
كما لا يفوته أن يصور مأساة العراق،كثرة المقابر وكثرة الشهداء من خلال طفل جريح يصرخ في وجهه وهو ذاهب به إلى المستشفى(( ما ذنبي؟)). ويجعل بَدَنك يقشعرُّ من مناظر تراها في المستشفى وبين المقابر من أثر(تداعيات خرائط الموْت).
يأخذه الحنين(نوستالجيا) إلى ذلكم الأستاذ الذي حبَّب إليه اللغة العربية وجعله يُتقنها وأعانه على نشر أول نص له، ولكن لما يعوِّل على البحث عنه وزيارته للتعبير له عن شكره وامتنانه، يُفاجَأُ بأنه نُقل إلى الجنوب سجيناً، فيستغرب المتلقي من وضْع أستاذ يحظى بهذا التقدير، كيف سقط في الوحل؟ وهل "المُعرَّب" أكثر عرضة من غيره للانجرار إلى فكر عهود خلتْ؟
شخص يُقاد إلى السجن بعدما يشبعونه ضرباً وإهانة، لأنه كتب قصيدة شعرية ضد النظام، كأنه (حلم في منتصف الليل) وليس حلماً في آن، حين تنمحي الحدود بين ما يقع وما هو ممكن الوقوع. وآخر يُكلَّف بمهمة إقناع أخيه ببيْع أراضيه، ولكنه- وهو في الطريق- يتراجع عن تأدية هذه المهمة القذرة، وهو الذي تقرع ذهنه مقولة رائجة: (( الأرض غالية يا الحاج... فهي كالمرأة والبندقة لا تباع ولا تُشْترى))ص: 36
إن (السقوط)- بالنسبة إليه- إنما هو أن يبقى الناس صامتين متفرجين، يتلذَّذون بحيادهم القاتل إلى أن يهاجمهم إرهابيون ملثَّمون. وكانت صرخة الطفل البريئة أحسن تعبير عن موقفهم المتخاذل: ((أنتم كما أنتم . الألسنة خرساء.. الوجود عندكم رياء وخوف، جُبْن وضياع، لا تعرفون معنى الحياة الحقيقية إلا عندما تواجهون الموت))ص: 44
وكيف تكتب تقارير الحزب العتيد وتوصياته؟ إنها تتمُّ في ليْلة يخلو فيها المسؤول بمُطلَّقة مغبونة تتقن الكتابة وتنتقم لزوج سابق خادعها واحتقرها وقضت ليلتها تنعم بدفء الصدور وحرارة التأوُّهات. هي (ليلة واحدة)، لكنها تساوي أو تفوق طول الليالي التي عانت فيها الظمأ الجنسي وافتقدت الحنان.
(( وفي الصباح أحسَّتْ بنشاط غير معهود عندما وجدت نفسها على المنصة تقرأ التقرير النهائي لقد أمدَّتها ليلة البارحة بحيوية منقطعة النظير وما أن انتهت حتى دوّتَ القاعة بالتصفيق))ص:50
لعل الممارسات القمعية والمواقف اللامبالية هي التي تهيِّئ لـ:(الطوفان) حيث لا تنفع بدلة أنيقة ولا ربطة عنق لافتة، وحيث يجد المرء نفسه أمام الخوف من الموت والضياع، يتردَّد في إنقاذ مَنْ يوشِكون على الغرق من حوْله، ولكن ضميره قد يستيْقظ حين يرى أقرب الناس إليه يتدحرج نحو الفناء، وهو- وإن فعل- يبقى إنساناً أنانياً مادام لم يلتفت إلى الآخرين من قبل.
ثمَّ إن العسف والقهر والخطب المزيَّفة تثير العاصفة حتْماً. فهؤلاء المساكين الذين جيء بالجرَّارات والآلات الضخمة لهدْم بيوتهم ، وللقضاء على الآثار الرومانية في المنطقية أيْضاً لن يسكتوا مهما طال الصبر وامتدَّ الزمن.((اشتعل الغضب في صدورهم وطاشت نظراتهم فحملوا الفؤوس والهراوات وبنادق الصيد وانطلقوا إلى بيت رئيس البلدية كالعاصفة الغاضبة ))ص:60-61
هكذا تتناثر القصص قطعاً من الحياة، تمتدُّ من الذات الكاتبة إلى الموضوع، ومن الموضوع إلى رؤيا تتحسَّس الناس والأشياء فتؤلِّف في مجموعها صورة واحدة لواقع تثقله المشاكل وتعيق تقدُّمَه الذهنيات المتخلِّفة ويبقى يطمح-دوْماً- إلى التغيير، إذ مازال صوت سلطان يتردَّد في الأرجاء، ومازالت الأصوات الغاضبة تتأهَّب للهجوم.
"قلولي بن ساعد" يكتب قصصاً قصيرة، يُراوح فيها بن استعمال ضمير الغائب والمتكلم، يلجأ إلى الحوار قليلا، ولكنه يتقن الوصف بلغة مركَّزة سهلة، بحيث لا يأتي الوصف مقصوداً لذاته أو يبدو مجرد رقعة أرجوانية تزيِّن النص ، بل إنه الوصف الذي يُخفي حركة وظلالاً، تجعل المتلقي يندمج في الموضوع، يعود إلى الواقع أو يستشرف المستقبل، ولكنه في -كل الأحوال- ينجرُّ إلى أن يتَّخذ موْقفاً. وبصرف النظر عن طبيعة الموقف الذي يتخذه يكون –لا شك- تمتَّع بقراءة قصص أدبية متميِّزة.
ـــــــــــــــــــــــ
* ناقد من الجزائر