وللاحتلال يوم آخر قصة قصيرة بقلم اسماعيل دراجي
ـــــــــــ بقلم اسماعيل دراجي *
كانت الوحيدة في حياته لم يكن يعلم أنها ستكون كذلك عندما سماها وحيدة لأنه قرر أن يسميه وحيدا إن كان ذكرا...
كانت "وحيدة"قرة عينه تتحرك في قلبه،تناغي عواطفه، تدغدغ مشاعره، تختلط مشاعره،تتسارع دقات قلبه كلما قرأ على محياها بعض ملامح الحزن أو الغضب.....إنها قد ملكت عليه كلّ كيانه .
ظلت تكبر في بطء.كاد يلازم مهدها،ينام بجواره يأكل،يشرب،ويرتاح هناك .
عاب الناس عليه ذلك كثيرا لكنه لا يبالي،كانت زوجه تأخذها ما يشبه الغيرة،لكن سرعان ما تؤوب إلى رشدها،وتلتزم صوابها،وتتراجع عن شعورها هذا،عندما نذكر أنه ابنتها،وأن أيّ أم تتمنى أن تكون ابنتها مدللة،،وقد قال الأوائل أن البنت حبيبة أبيها،وفوق هذا وقبله أنها وحيدته ....
أصبحت الآن تدرك، وهذا ماكان يتمناه،لأنهاـ كما كان يقول ـ لو أنها كبيرة فإنها ستطلب مني حاجتــــها بنفسها وحينها لا آلو جهدا في جلب لها ماتحتاج، فهاهو الآن له ذلك،فقد راح يمطرها بوابل مما تطلبه، أو تتمناه .
الاستعمار هذه الأيام يكثف غاراته على البلدة الآمنة،ففي غارة أمس أصيب الكثير من الأهالي، والأبرياء، من الأطفال والطاعنين في السن .
كان يدعو الله كثيرا ويتوسل إليه أن يحمي و حيدته من رصاصة طائشة ،أو شظية عمياء،أو قنبلة جائحة لاتميز بين هذا وذاك.
كان يحدثها عن الاستعمار عن الكروم،عن الزيتون، عن الحرب والسلم،عن الاحتلال وعن أطماعه،عـــن بلدات هجرها أهلها عنوة،عن المخيمات، عن الشتات وكان يحدثها عن بيت جدها الذي تزينه تلك النافورة التي تتوسطه،وإصيصات الأزهار،عن قطيعه الذي لم
يسلم من كيد الأعداء أيضا،كان يحضنها كلما حدثها،
فقد كان يتخيل في كل لحظة أن وحيدته مستهدفة هي الأخرى كذلك،فتعانقه وتتشبث به لأن أباها مـــن المستهدفين كذلك،ولأن القوة الحمقاء لا تفرق ولا تميز وهي تضرب.....
هدأت الأوضاع هذه الأيام،وبعد خطر الحرب عــــن القرية ولو لحين،وتنفس الناس الصعداء،والتحقوا بأعمالهم،غير أن المفاجأة كانت كبيرة ،كانت صادمة عندما اكتشف أبو وحيدة أنّ المعمل البسيط الـــذي يشتغل فيه ويمده برزقه ويقيت منه وحيدته قُصف ودُمّر عن آخره،ولم يعد للعمال به غاية،وأنه غير صالح للترميم والانطلاق من جديد .
وقف مليا أمام الركام،رأى قطعا من الماكنات البسيطة رأى مآزر العمال ،رأى بقايا من الحواسيـب،رأى هولا عظيما،رأى حذاءا لحارس الليلي الذي قتل في القصف الهمجي...
استرجع أنفاسه،تمالك،أعاد قوته وشجاعته،سلّم بالواقع،فقد علّمه الاحتلال ـ كما علم غيره ـ جسارة وإقداما وحرصا على استمرار الحياة في موكب الموت. همّ بالانصراف...لكنه سمع صوتا يناديه مـــــــن خلف..أبا وحيدة...التفت،فإذا هو صاحب المعمل
ألك استعداد للعمل في الخارج،وصبر على أهــــلك ووحيدتك؟ وهل بقي للعمل معنى وقد قصفت البلدة الآمنة،ولنا إخوة يموتون هناك على الضفة الأُخرى؟
لقد قرّرت أن أحمل السلاح وأقاوم الاحتلال،أقاتل أبناء ال.....قال ذلك في حدّة وحماسة.
وحين هدأ غضبه قليلا خاطبه صاحبه:لا تنس أن عملك وسعيك على قوت أهلك هو أيضا كفاح ومقاومة وقد تعيل عوائل غيرك ممن يموتون في ساح المعركة..
الآن لا أستطيع أن أفكر، وأقرر،فأنا مشلول الفكر،مسلوب الإرادة...ولكن سأبلغك قراري فيما بعد.
استشار وحيدته وزوجه،وبعضا ممن يثق برأيهم، كانوا تقريبا على رأي واحد،فشجعوه على المضي على العمل في الخارج،ثم هي مدة ليست بالطويلة،فقد ذهب الزبير وأخوه،والعم أبو أيوب،وغيرهما كثير من أهل القرية...
لم يأخذ من كل هذه الآراء ومحاولات الإقناع إلا قول وحيدة بأن أمنيتها أن تستعمل حذاء ايطاليا تذكر أن أغلب البعثات العملية تكون إيطالية.قرّر علــى الفور،اتصل بصاحب المعمل،أبلغه موافقته.
بعد يومين سيكون جاهزا للسفر،والرحيل....
دنا الموعد وحانت الرحلة،ودع وحيدته وزوجـه طويلا،أوصى كل من يعرف من الأهل والأقــارب بوحيدته،وأنه سيعود في أقرب فرصة متاحة لذلك، لأنه غير مقتنع إلا بالتصدّي للاحتلال.كان يطمئنّ من بين الحين والآخر على وحيدة،يسأل عن الاحتلال، وعن الاحتلال،وعن الجديد من جرائمه...لكن كان يُطمأن رغم كل الظروف حتى لايضاف إلى هم غربته هم الأهل والوطن .
كان دوما يبلغ ابنته أنه سيحضر لها الحذاء الإيطالي الذي تودّه وترغب فيه وأن إيطاليا فعلا فيها أجود أنواع الأحذية.
كانت الأيام تمرّ عليه ثقيلة،مديدة،طويلة،يفكر في العود في لقاء أهله وفي رؤِية وحيدته على وجــــه الخصوص.
لقد أصبح الآن يعد التنازل لأن ما تبقى أقل مما مضى.
مضت الأيام متثاقلة لكن أمل العودة واللقاء الأحبة والوحيدة يخفف من عبء هذا الثقل.
اقترب أجل العودة..... غدا الرحيل،كان قد أعد كل أمتعته سلفا ومجموعة الأحذية في حقيبة خاصة،بات يقظا تلك الليلة،كم كانت طويلة،أنهى كل ذكرياته ولم تنته...
خرج باكرا،بدأ رحلة العودة،كانت هي أيضا طويلة، طويلة،
كان خلالها يفكر في اللقاء،في فرحة ابنته،في الجلوس إليها طويلا،في تقديم لها الهدايا والحذاء بل الأحذية راح يتساءل،كيف هي الآن؟وهل ازدادت جمالا مع جمالها؟أم تراها قد أخذ منها التفكـــــير مأخذه... وسلبها شيئا من بريقها؟والاحتلال هـــل اقترب منها في غيابه،وهل تلك الطمأنة كانت حقيقة.
لم تنته الأسئلة حتى انتهت الرحلة.
كان اللقاء رائعا أسطوريا،كان مع الأرض،مع الهواء
مع الشجر،مع الحجر،مع الناس،مع كل شيء.....
دخل بيته أخيرا،لقي زوجته،سأل عن وحيدة،أين هي ؟وكيف لم تكن في استقبالي؟أم أنها لم تسمع بمقدمي هذا اليوم؟حاولت الزوجة أن تطمئنه،لكنه أصر على الأسئلة. أخبرته أنها مريضة ؟اين هي الآن؟ أود أن أراها!!!
أدخلته زوجه غرفة ووحيدة سقط ليعانقها،وهو يدعو لها بالشفاء،وأنه سيعالجها ولو كلفه ذلك ما يملك.
أراد أن يخفف عنها مما هي فيه،فراح يفاجئها بالهدايا،الهدية بعد الأخرى.
وجاءت المفاجأة الكبرى فطلب منها أن تغمض عينيها،ففعلت.أخرج الحذاء الجميل،ثم قال لها:الآن افتحي عينيك،فرأت الحذاء الذي كانت تتمنى،شكلا ولونا.....أجهش الجميع في البكاء، استشاط غضبا،وراح يسأل عن السر المبكي،وهذا اللغز المحير،لكن لامجيب،عاوده الهدوء،هي ربما فرحة اللقاء ألم يقولوا أن للفرحة دموعها أيضا.
راح يرفع الغطاء عن ابنته ليلبسها الحذاء بنفسه تماما كما كان يفعل معها في صغرها...
رفع الغطاء...رأى منظرا أهاله...رأى أن الرجلين الجميلتين بُترتا ،سقط وهو يقول: وللاستعمار مغميا عليه يوم آخر.........
ــــــــــــــــــــــــ
* قاص من الجزائر