عبد الحفيظ بن جلولي : دموع فراق... وغربة مثقف بقلم الأديب عيسى ماروك
عبد الحفيظ بن جلولي : دموع فراق... وغربة مثقف
إن أول لقاء للقارئ بالكتاب يبدأ من العنوان ،الذي يعد أول عتبات النص ومفتاح الدخول إلى عالم النص ,من خلاله يختصر النص وتتكون عنه فكرة في ذهن القارئ حتى لو كانت عامة ,"فالعنوان ضرورة كتابية " لابد منها .
لذلك خص المبدعون نصوصهم بعناوين مختارة بعناية .
فالعنوان يراوغ المتلقي ويثير في ذهنه كما من الأسئلة التي لا يرتاح إلا بإيجاد أجوبة لها ،في هذه الحال لا حيلة أمامه إلا باقتحام أغوار النص بقراءة واعية , بل قراءات وهنا على القارئ أن يستعين بمخزونه الثقافي ليدخل مرحلة تأويل ما تيسر عليه فهمه وفك شفراته.ذلك ما على من القارئ أن يتسلح به وهو يقتحم أسوار مجموعة القاص الجزائري "عبد الحفيظ بن جلولي" الموسومة بـ "دموع على سطوح الغربة" مجموعة قصصية تضم (17) قصة تختلف مضامينها وتشترك في نفس القيمة الأدبية.
وقد اختار الكاتب عنوان قصة " دموع على سطوح الغربة " عنوانا للمجموعة ككل , ولا شك أن لذلك دلالات ينبغي التوقف عندها وأول ما يجب ملاحظته أن العنوان مركب اسمي يقوم على أساس العلاقة الاسنادية والتي تعد " رابطة معنوية ضمنية"( ) هي انعكاس للرابطة المعنوية بين الراوي في القصة وقريبه المتوفى
إن تركيب العنوان النحوي لا يعتبر أمرا شكليا، لأنه يؤثر في المعنى . فاستخدام الكاتب لجملة اسمية في العنوان، لا فعلية، مما يعني أنه يقصد شيئا له صفتا الثبات والاستمرارية مما يعطيه نوعا من الإطلاقية غير المقيدة بزمن ما ولأن الخبر دال على الظرفية المكانية " فوق سطوح الغربة" يشي باهتمام الكاتب باستراتيحيات المكان من خلال شبكة العلاقات السيميائية المركبة التي تتداخل في فضاء الكتابة القصصية.
والعنوان هنا يلعب دورا فنيا بشكل كبير, كونه ينتقي موضوعا واحدا من المواضيع الرئيسية التي هي لب محتوى المجموعة مما يجعله قائدا للعمل, لذا يمكن اعتبار هذا العنوان "مركزا" ويتجلى ذلك في وجود عنصرين في داخله يعتبران هامان، لأن ما يفعله هذا النوع من العناوين " هو اقتراح ثيمة من بين الثيمات المتنازعة وإعطاؤها مكانة مركزية في عملية تأويل العمل"( ) .
فالثيمة الأولى هي "دموع " التي تعني ماء العين لغة لكنها تحمل أكثر من مدلول فقد تكون للفرح كما تكون للحزن أوالخداع ومن خلال قراءة متفحصة للمجموعة نجدها تحمل دلالة الحزن والألم ’ ألم الأم التي فقدت ابنها في بلاد الغربة " أمي لازالت تذرف دمعها " ( ) و ألم حرقة فراق حبيب طال انتظاره "تجرفها الذكرى ’ تهيم بنظرات ملتهبة في أركان الغرفة المليئة بالهرج والبكاء والمواساة " ( ) هذا الحزن الذي أصبح حرقة تلهب الفؤاد لا يخفف من وطأته إلا الدمع " كانت تحكي , وتخبر بعنف والدمع ينزف بحرارة كما بركان يغلي من العمق " ( ) دموع من كثرة انهمارها ما عاد لها لون أو جنس بل هي أقرب للضحك من تصاريف الدهر الذي طالما خيم الحزن على أيامه ولياليه " أيها البعيد في دمعي ’ أبكي وسوف أظل أبكي , ولا لون للبكاء ولا جنس له لأبكي ’ أبتسم لأحزن وأحضر لأغيب في صورتك" ( ) فالدمع فاتحة البداية " تأتي يتدفق الدمع من عينيها " وخاتمة النهاية " هي الآن تفتح الباب لتضع دمعة تختم مشوار العمر " ( ) بالدمع الابتداء وبه الانتهاء في ثناياه ترحل التفاصيل حيث " لا حزن ولا فرح ولا قلق ولا هدوء" وكما البريق يلوح من الدموع حينا يلوح الفرح الطفولي حين تجري على المقلتين دمعتين " تعود معبأة بأشياء القرية الجميلة ’ تعود المنارات ,تعود بأجمل الأحلام ’ بالطفولة تدمع فوق شهقة النوى ..." ( ) دموع تنهمر فرحا بلقاء الغائب " تتداخل الصدور ’ نهل من دمعي وشربت من شهقاته " ( ) يذكر بلحظات من السرور يعجز اللسان عن وصفها فتنطلق الدموع مهراقة " الدموع تتصدر المكان , والعين التي كانت تجمع الحبيبين عند مدخل المدينة " ( )ولأن الدمع في اللغة يحمل معنى الجريان والانهمار فالكاتب وظف هذه الدلالة ليستعيض عن العين بالقلم و يحل الحبر محل الدمع ثم ألا يذرف الكاتب دموعه حبرا على الورق إنه " الحبر الذي ينزلق من دمي ومرايا طفولته الغائبة " حبر به " كتب أشياء الزمن المتراخي في فتنة الدمع " و " تحبر أوراق الحرية"( )
دمع للفرح وآخر للحزن وبعضه يذرف للقاء أو فراق محبوب دمع يؤرخ لمعانة الكاتب لكنه أحيانا يقود إلى اللامكان إلى المجهول " لا شيء غير دمع يتوسد الرمل للعبور إلى لا مكان " ( ) هي غربة الروح التي يتخبط فيها فلا يهتدي سبيلا غربة تقف على الطرف الثاني في بناء العنوان "دموع على سطوح الغربة" فالغربة لغة هي البعد والنفي ،بعد الاخ المتوفي في القصة التي تحمل المجموعة عنوانها " هذا الذي غربته أوطاننا الرحيمة , غربه الرحم إذ انتشله من كبدها " ( ) والغربة ليست هنا الانتقال إلى فرنسا فقط بل هي سفره إلى مختلف جهات الوطن شابا لم .... الحياة " يقدم من حيث تقذف به جهات الوطن " اضطرته الظروف ليترك حضن البيت الدافئ ويهيم في الشوارع المقفرة ثم لا يلبث يعود إلى " القرية[التي] تمسح غربتها بدهشة عالقة " آه كم هو جميل هذا الوطن " الذي تفصله عنه " مساحة بيضاء تحمل ثقل الفرقة والاغتراب"( ) اغتراب يبدأ مع النص من بدايته بالغريب الذي يدق الباب حاملا خبر المرض _ جسر الغربة الأبدية _ تزيدها غربة صوت الممرضة بلهجة مغربية " غربة الجسد وغربة اللسان " وكأن بليل غربته الطويل لا يريد أن ينجلي وهو الذي "أوغل في المنفى وفقدان الطفولة " وكأن السرير الغريب لم يكفه فكان من نصيبه مغسل غريب يمدد عليه جسده يكون وسيلته لـ " غياب أبدي يشحن ذاكرة الموت والمنفى "
قد تكون الغربة المباشرة هي غربة الجسد الذي ينأى عن محبيه لكنها بالمقابل غربة من نوع آخر غربة فكرية تتبدى في " انتحار لون " حينما " بدت اللوحة يتيمة وغريبة في زحمة لافتات محلات ازياء والآلات الكهرومنزلية "( ) تلك الغربة التي يشعر بها فنان يقف وحده في رواق يضم لوحاته الزيتية غربة مضاعفة في " هذا الواقع الغريب والمغترب فيه " (15) وأحيانا هي غربة مجتمع يتخلى عن عادته وتقاليد وينسلخ عنها لتحل محلها عادات أخرى كما يصورها في " اللسان" حينما يدرك أن " المكان يشهد تحولات غريبة " ( ) لكن الحقيقة الصادمة هي حينما يدرك أن المنفى ليس منفى الجسد بل " منفى الذاكرة " ( ) حينها لن يتوانى عن الرحيل " دون حقيبة أو متاع " فتتضافر دلالات الموت والمرض الانتحار لتصنع صورة كبرى للغربة التي تتربص بنا في كل الزوايا وعلى السطوح التي مهما امتدت ماهي إلا مرايا تعكس ما نشعر به " ولا حضور للصورة وهي تنعكس على سطوح المرايا وبحيرات الصدر الحنون " ( ) وذكريات لزمن الصبا والشوق الجارف " لتجعلها طريقا آخر في سرد أشواق زمن السطوح " وبين الدمع والغربة تصبح للسطوح رمزية زمانية ترتبط باللقاء والشوق والعودة لحضن الوطن والحبيبة .
وإذا كان الأسلوب الاسمي الذي اعتمده الكاتب " يساعد على تأكيد الطابع غير الشخصي و يميل إلى التأملية الخالية من الانفعالية عكس الاسلوب الفعلي اكثر استهدافا للغة ذات الوظيفة الانفعالية العالية التي تهدف إلى التأثير "( ) فما ذلك إلا تمويه منه على مشاعره التي تفضحها الدموع التي تطالعنا في أغلب نصوصه التي تصور عوالم الغربة التي يعيشها الكاتب سواء كانت جسدية من خلال البعد عن الوطن أو القرية أو الغربة الروحية المتمثلة في العادات والتقاليد التي غزت مدينته أو الغربة الفكرية التي يعيشها في عزلته المفروضة عليه تحت وطأة المادية الطاغية بعد انفتاح المجتمع على النظام الرأسمالي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
* للموضوع مراجع