/

مقالات نقدية

أنتولوجيا الابداع

هوامش الإبداع

الثورة في الشعر الجزائري المعاصر والتلقي النقدي من النص إلى السياق بقلم الاستاذ البشير ضيف الله


الثَّورة في الشِّعر الجزائري المعاصر ..و التلقّي النقدي..
من النَّص إلى السِّياق
أ.البشير ضيف الله 
مدخل منهجي:
مرّ الشعر الجزائري على مدار سنوات الاستقلال بفترات تباينت بين الحراك و البهوت، نتيجة لعوامل سوسيو- سياسية خصوصا المرحلة التي أعقبت الاستقلال مباشرة والتي يعزيها كثير من النقاد إلى التوجه الوطني الجديد الذي جعل الشعر في الدرجة الثانية من الاهتمام ، فـ: << الشعراء ينصرفون عن الشعر، كأنما استنفدوا كل ما لديهم من قدرات على الإبداع والتحبير، أو انصرفوا إلى شؤون البناء الوطني، ليسهموا فيه، ولينهضوا بما كان يجب عليهم النهوض به تجاه الأجيال الصاعدة فاشتغلوا بالتعليم أو الإعلام أو ظائف أخرى في الدولة الناشئة>>(1). 
ولعلّ شهادة السيدة "زهوز ونيسي" لها ما يبررها إذْ تقول : 
<<.. لكن ما كتب حتى الآن سواء شعرا أو نثرا أو قصة أو رواية وحتى مسرحا وسينما غير كاف أبدا، دول أخرى كانت لها أحداث صغيرة جدّا أنجزت منها المستحيل، "مظاهرات 1919 " في مصر نجدها مجسّدة في أعمال تلفزيونية وسينمائية، أمّا نحن فنخرّب بيوتنا بأيدينا ونقضي على ما عندنا من تراث ثوري ونضالي، وأعتقد أنّه إذا حاولنا أن نقضي على هذا التاريخ النضالي كما نسعى إلى القضاء على الكثير من الأشياء الجميلة فسوف ننتهي، لذلك لابدّ أن يستعيد الجزائري مرجعية الثورة كعامل مشترك.. ...>> (2). 
وبالمقابل فإنّ الروائي "رشيد بوجدرة " يطرح مقاربة أخرى لهذا الموضوع ، بقوله: 
<< أمّا عن مدى التزام الأدباء الجزائريين الشباب بالثورة وبقضايا الوطن بشكل عام، فأعتقد أنَّ المعربين يملكون موقفا سياسيا حماسيا تجاه مختلف القضايا، لكن الكتاب بالفرنسية بعيدون نوعا ما - وهذا ليس لوما - عن القضايا العربية الإسلامية لأنّ أنظارهم متّجهة نحو الغرب وخاصة فرنسا، فعندما أقرأ لبعض الكتّاب الشباب بالفرنسية ألاحظ وكأنّهم يكتبون لقرّاء فرنسيين أو غربيين، وكأنّهم ينتظرون اعترافا من وراء البحر رغم أنّهم ينشرون في الجزائر...>> (3).
في هذه الورقة نقف عند عينات شعرية ما بعد الثمانينات إلى اليوم خصوصا مع وجود حراك شعري له مرجعيات مختلفة انتهت بظهور حساسية شعرية جديدة تقرأ الثورة من خلال شاعرها الأبرز"مفدي زكريا" الذي ارتبط بها و ارتبطت به على مستوى النَّص طبعا.
- فكيف قرأ النقد الجزائري المعاصر هذه النصوص –على قلتها وقلته- ؟ - وهل استطاع هذا الخطاب النقدي تجاوز التقليدي و التأسيس لمنهج يضع النصوص الموجودة على المحكّ؟ 
- أم أنه بقي وفيا للمناهج السياقية التقليدية في تعامله مع المنجز الشعري الخاص بهذه المرحلة التي تجاذبته فيها عدة محددات كالتاريخ و الإيديولوجيا إلى درجة التقديس من جهة و وجود تراكم شعري ثوري خلفه "مفدي زكريا" بمثابة خط فاصل بين مرحلتين من جهة أخرى؟ 
إنَّ قراءة النَّص الشعري بكل تجلياته ليست جديدة على النقد الأدبي كما يشير إلى ذلك الدكتور "عبد الحميد هيمة" ، وإنما هي حكاية قديمة جدا لكن الكيفية تختلف هذه المرة بحكم نوعية النصوص وتيمية الثورة كحافز فاعل مما يطرح أسئلة ملحة عديدة عن الكيفية التي من خلالها قراءة هذا المنجز ،و الأدوات الإجرائية و التفكيكية التي تجعل من قراءة النَّص الشعري عملية ممكنة بعيدا عن الانطباع والسطحية، في ظل "شبه مأزق نقدي " يتَّسم بتعدد المناهج من جهة ، وتحولات النَّص من جهة أخرى.
. شعر الثورة و إشكالية المفهوم:
مالمصطلح الأكثر تماسا مع النصوص التي جعلت من الثورة التحريرية تيمة مركزية لها، وهل يمكن إطلاق "شعر الثورة" أم "الشعر النضالي" أم "الشعر الوطني" أم "شعر التحرر" على هذه النصوص وكلها اصطلاحات رجراجة لا تلامس المنجز ؟
نحن في شبه مأزق نقدي يجعنا مطالبين بتحديد مصطلح "علمي، عملي" حتى نقف على علاقة الخطاب النقدي المعاصر بهذا المنجز الشِّعري،فقد ربط الدكتور "العربي دحو" شعر الثورة بالحرب، خصوصا و أنه لا يوجد مصطلح دقيق يمكن من خلاله وضع استراتيجية نقدية لتناول هكذا نصوص، فـَ: << هذا المصطلح يجعلنا أمام تسجيل اعتراف أولي و هو إننا لا نستطيع أبدا إعطاءه حقه ولا استقطاب كل الشعراء الجزائريين على الأقل الذين لهم صلة بالموضوع على اعتبار وقت التناول ، و امتداد الزمن ، وتعدد الأجيال الشعرية التي تحدثت فيه اليوم . فضلا عن وجود " ظهير " شعري زخم يواكب الشعر العربي المدرسي المألوف ، و الذي أصبحت له مكانته اليوم في الدراسات الأدبية والفكرية الإنسانية.. >>(4). 
من هذه الإشارة يمكن التأكيد على أنَّ هذا المنجز لم يُحظ بعناية النقد الأدبي،أو ربما نظرَ إليه بطرف خفي على أساس القصور الجمالي ربما للأعمال الشعرية في هذا الإطار،أو لأنّ شعرية "مفدي زكريا" لا تزال تلقي بظلالها كفعل مهيمن يجعل الاشتغال الفني والنقدي أمرا محسوما سلفا : << مع التنبيه كذلك إلى أن الدراسة الفنية مع ما لها من وزن عندنا فإنها هنا لا تنال نصيبها الأساسي للأسباب المتقدمة وللأسباب الأخرى التي تبعد أحيانا آداب الثورة و المقاومة " من الآداب الإنسانية التي تتوفر على جماليات معينة>>(5).
لكنْ يجدر التأكيد على أنَّ هناك علاقة قائمة في الفلسفة المعاصرة بين الشعر والثورة، فالشعر رؤيا بفعل والثورة فعل برؤيا -كما يُقال- وأيًّا كانت التسميات أو الاصطلاحات فإنه لا يمكن تصنيف هذا المنجز إلا في إطار "شعر الثورة" على أنَّنا نحصر المجال الزمني في هذه الورقة في جيل الاستقلال –الثمانينات فما فوق تحديدا-على اعتبار أنَّ تلقيه للثورة كفكرة –والفكرة لا تكون فكرة مالم يُعبَّر عنها كما يقول "كروتشه"- وكمسار تختلف عن جيل الثورة نفسه، فليس من عايش الحدث كمن سمع عنه، من هنا تتفاوت التجارب بحسب درجات التلقي أو "التلقين" المدرسي المعتمدة و الممنهجة و التي حملت كثيرا من التقديس وقليلا من الواقعية وهو ما يفتح مجال التأويلات التي تنعكس على النَّص حتما بشكل أو آخر والذي بدوره يؤثر في التلقي النقدي لهذه النصوص لأنَّ <<النقد الأدبي لا ينفصل عن هذه الحركية غير أن المادة التي يتناولها موضوعاً له لا تؤخذ على أنها مادة جاهزة وإنما تعتبر شكلا متغيراً في قلب التاريخ يتضمن نفس متغيرات الوجدان الذى أنتجه>>(6). 
فهل ارتقت النصوص المنجزة إلى مستوى الثورة وإنجازاتها من الناحية الفنية؟ أم أنها وقعت في التسطيح والإنشاء –تحت الطلب- بعيدا عن الفعل الإبداعي/ الاستيطيقي؟
أنطلق في هذه المقاربة من حيث انتهت الدكتورة "خيرة حمر العين" إلى أنَّ النقد لم ينجز << ما نرجوه من الإبداعات الآن.. والتي لم تتخلص من هيمنة الأساليب التقليدية والتي أسهم فى تكريسها نقص المثاقفة.. مما لم يفسح المجال لإمكانية التفتح علي العالم وطبيعي ألا تنتج تلك الفترات – علي اختلافها – فناً أدبياً لافتقادها المناخ الرؤيوى الذي يثري مخيلة الشاعر..>> (7) 
.شعر الثورة الجزائرية ومستويات التلقّي النقدي:
-هاجس التيمة/ابتذالية الخطاب:
أؤكد في البداية على أنَّ النصوص الشعرية التي كتبت في الثورة الجزائرية على امتداد الثلاثين السنة الماضية ليست بالقدر الذي يناسب مقام هذه الثورة، فقد أحصينا في العشريتين الأخيرتين ما لا يزيد عن30نصا شعريا طغى على كثير منها الطابع التقريري / المنبري، فقد جاءت نتاجا لحوافز معينة كالمسابقات الأدبية على غرار "مسابقة أول نوفمبر" لوزارة المجاهدين، غير أنه يجدر التأكيد أنه ليس من مهامنا تصنيف النصوص المنجزة إلى جيدة و رديئة ،فالنقد حركة مسايرة للنتاج النصِّي يقف على تحولاته و يستقرئ جمالياته ورموزه وفق تصور منهجي /علمي دون إهمال التذوق الفنِّي كونه 
<< استجابة وجدانية لمؤثرات الجمال الخارجية واهتزاز الشعور فى المواقف التي تكون فيها العلاقات الجمالية على مستوي رفيع فيتحرك لها وجدان الإنسان بالمتعة والارتياح وفى نفس الوقت يعني الذوق استهجان القبح ولفظة والتحرك نحوه لتحويله إلي جمال يمتع الإنسان ..أي أن الذوق حركة ديناميكية فاعلة للتأثر والتأثير بمواقف الحياة التي يلعب الجمالُ فيها دوراً إيجابياً>>(8).
إنَّ تلقّي النَّص الشِّعري الثوري في الخطاب النَّقدي المعاصر لم يكن بتلك الفاعلية المنتجة وذلك الاهتمام لعوامل سبقت الإشارة إليها ، فلا يمكن << للنص أن يحيا إلا في أفق فاعلية إنتاجه وتلقِّيه >>(9)، ومن ثمَّة فإنَّ المنهج السوسيولوجي التاريخي يتكفَّل بمسايرة هذا التسطيح النَّصي الذي يغلب عليه التقرير لا أكثر. 
و تؤكد الدكتورة "خيرة حمر العين" على أنَّ النَّقد المعاصر لم ينجز ما هو مطلوبا منه،أو بالأحرى لم يساير حركة هذه النُّصوص النمطية /الإيديولوجية وهي محقة إلى حد بعيد لأنَّ:
<< قراءة الشعر الجزائري برؤية نقدية متكاملة شيء لم ينجز بعد وكل ما أنتجته الرؤي السابقة لم يحقق الجدل الكافي لإثارة سؤال الأدبية والمعني الأدبي فى التجربة الشعرية الجزائرية ، ولعل تراجع الوعي بالمسألة يعود لضآلة الإنتاج وعدم قدرة الفعل الإبداعي علي مكاشفة الواقع>>(10).
إنَّ هذا الحكم القاسي نوعا ما، يحمل إقرارا حقيقيا بمحدودية النصوص الشعرية المنجزة وعدم إثارتها لأيِّ حراك نقدي بخلاف النُّصوص الأخرى الخارجة عن إطار الثورة ، فعندما نقرأ نصًّا للشاعر الجزائري "محمد الأخضر السائحي" –رحمه الله- على نحو:
"كان وهما وكان حلما بعيدا أن نناجيكَ يانفمبرُ عيدا
وتعودُ الدموع فيك ابتساما ويعود النَّشيجُ فيك نشيدا 
قلْ ليوليو هنا نفمبرُ باق خلَّد النصرُ مجدهُ تخليدا"(11)
وبصرف النظر عن ظروفه ومعطياته، فإنه يقف في الطرف المقابل للمعنى بغياب الاشتغال على اللغة وعلى الصورة والرمز، مع ميل صريح إلى التقرير والمباشرة مما يعطي تبريرا للقطيعة بين النَّقد و النَّص رغم ظهور حركة نقدية في نهاية السبعينيات << حيث كتب فيه أبو القاسم سعد الله و محمد مصايف وعبد الله الركيبي وأبو العيد دودو وهؤلاء كانوا من النقاد... إلى جانب عبد المالك مرتاض..>> (12). ولعلَّ غيابَ رؤيا واضحة لمفهوم الشِّعرية وعدم الوعي بحقيقة الثورة كتحول وكمسار وكحدث فرض نفسه بقوة في تلك الفترة <<لم يساعد الكثير منهم على تقديم نماذج طيبة، أضف إلى ذلك ما كان يتصف به بعضهم من كسل وغرور، جعلهم يكتفون بثقافة شعرية سطحية ليس لها جذور أصيلة في الشعر العربي القديم... والجمهور المثقف باللغة العربية عامة كان وما يزال ضئيلا والمتذوق لهذا الشعر الجديد أضأل >>(13). 
ولا نتجاوز هذا المعطى حتى نقف عند نص آخر لشاعر وقع حضورا مميَّزا نهاية الثمانينات وبداية التسعينات بنتاجاته العديدة، الشاعر الجزائري "عزوز عقيل" كواحد من جيل الاستقلال، الجيل الذي لقِّن الثورة بشكل مدرسي ولم يشهد عليها بخلاف ا"الأخضر السائحي" -رحمه الله- يقول"عزوز عقيل" :
"يحاصركَ الشِّعرُ 
لكنْ رفضتَ الصَّباحْ
سخرتَ من الشمسِ
فضَّلتَ عنها العذابْ
وفضَّلتَ عنها القلقْ
ورحتَ تغنّي مع الشهداء
نشيد الجزائرْ"(14)
***

الملاحظ في المقطع السابق أنَّ صيغة الخطاب نفسها رغم اختلاف النصَّين والتجربتين وهو ما يعني استمرار الحالة الشعرية الرتيبة نفسها عندما يتعلق الموضوع بالثورة حتى و إن اختلف النصَّان من حيث الشكل الشعري بالتحول من العمودي إلى الحرّ، وهنا تبرز الخلفية المفاهيمية للشِّعرية ولرمزية الثورة ، فالشاعر ليس من مهامه << رواية الأمور كما وقعت فعلا ، بل رواية ما يمكن أن يقع ولهذا كان الشعر أوفر حظاً من الفلسفة وأسمي مقاماً من التاريخ .. الشعر يروي الكلي بينما التاريخ يروي الجزئي..>> (15).
وكنموذج ثالث نقف عند شاعر من الحساسية الشِّعرية الجديدة ، سجل حضوره منتصف الألفية الجديدة من "تلمسان" أكثر اشتغالا على "العمودي" وحقق كثيرا من الاستحقاقات ، يقول "بغداد سايح" : 
ويقول "بغداد سايح":
"وطــــنٌ تــخـطُّ لـــهُ الـمـلاحـمَ جُــرجُـرَهْ
و يــجـيءُ يــقـرأُ فــي الـوجـوهِ نُـفـمْبرَهْ
و يــسـيـرُ يــرسُــمُ بـالـنـضـالِ خــلــودَهُ
حِـكَـمـاً عــلـى قِـبـبِ الـجـمالِ مُـعـطَّرَهْ
تــتــلــوّنُ الــكــلـمـاتُ ضــاحــكـةً بـــــهِ
فـيـعـانـق الـلّـهـبُ الـمـقـدّسُ أسْــطُـرَهْ
لِـقـصـيـدتـينِ يـــفــوحُ أحــمــرُ حُــلـمـهِ
و بــهـمـسِ زنـبـقـتـيْنِ يــوقِـظُ أخــضـرَهْ
و يـسُـلُّ مــنْ شـفـةِ الـقـصيدةِ مُـفـدِياً 
فــتـغـار مــــن يــــدهِ الـحـنـونةِ مِـحْـبَـرَهْ" (16). 
***
نلمس تحولا في الخطاب من الحضور إلى الغياب في إحالة على خطيَّة الثورة في المحمول الفكري للشاعر، غير أنَّ شخصية "مفدي زكريا" تلقي بظلالها بقوة على النَّص خصوصا البيتين الثالث والخامس، وهو يحيلنا على فرضية أنَّ "مفدي زكريا" لم يترك للأجيال الشعرية ما تقول عن الثورة نصا و إيقاعا ورمزا ودلالة في شكل حجة أو مبرِّر لغياب النقد والمتابعة لهكذا نصوص اللهم بعض المتابعات المنتصرة للمنهج خصوصا السياقي منه على غرار "محمد مصايف" و"عبد الله الركيبي" .
إنَّ "التسطيح" كسمة غالبة على النصوص المنجزة لأسباب متعددة ذكرنا بعضها تجعل النصوص الجزائرية << يقل فيها التعبير بالإيحاء الجمالي فى طابعة الرمزي >>(17) وتجعل عالم الشعراء << عالماً تحكمه صفة التجريد فى تقبل الأحداث على علاتها ونقلها إلينا بصورتها الحقيقة دون الاهتمام بمحصلة التجربة المرتبطة بالنفاذ إلي العالم الداخلي وذلك بقصد إنشاء العلاقة بين الخبرة الذاتية وتلك التي يتلقاها الشاعر من الخارج..>> (18). وبالتالي فإنَّ النَّقد الجزائري لم يسعَ إلى رأب هذا الصدع المفاهيمي في التعامل مع فعل الثورة كبعد نصّي/فني لا ينقص من قيمة الشاعر ولا يكون سببا في محدودية تلقيه بل إنه ساهم في انصراف المتلقي و إشاعة فكرة "الدونية" والكتابة "تحت الطلب" - رغم أن الثورة مجال خصب للمثاقفة والإبداع و العالمية والأمثلة عديدة في هذا الإطار- مما أشاع ملامح البؤس والخيبة و"خنق الأمل"(19) خصوصا فترة "العشرية السوداء" التي عرفت انسحابا للنَّص الشعري المتعلق بالثورة لصالح ما عُرف بأدب الاستعجال . 
-سطوة التاريخ/سلطة المقدس:
إحاطة الثورة بهالة من التقديس ونقلها إلى الأجيال بطريقة اليقين فتح أكثر من سؤال، وأدى إلى تهافت علاقة التي تربط النَّاص بالحدث وأصبحت الحاجة إلى إعادة قراءة الثورة وكشف خفاياها أكثر من الحاجة إلى الكتابة عنها، هذا التهافت واكبه تهافت نقدي وانصراف فيما يشبه الاحتجاج الصَّامت والرافض للمنجز برمته، مع وجود بعض الانطباعات الصحفية التي لم تكن تخرج عن إطار المجاملة و"تطييب" خاطر النظام السياسي القائم إلى غاية التحول الديمقراطي الذي عرفته الجزائر حيث تمَّ "جنوح النقد" إلى الجامعة وانحساره في الجامعة ، بعد أن عجز عن تفسير هذا التردي الشعري الذي افتقد جمالياته وسقط في فخ التاريخ "المعلَّب" ليدخل صف النِّضال وربما "الوعظ" فخرج عن دره القيادي المفترض و أصبح << بمختلف مضامينه وطرائق تعبيره شعر نضال ووطنية وإصلاح اجتماعي وفكري وسياسي يستهدف القضية الوطنية في أوسع مجالاتها وأبعد أبعادها..>> (20). بل ويكاد يجزم الكثير من النقاد في أحيان كثيرة على أنَّ نصوصا بعينها سقطت في التقريرية الفاضحة وكشفت عن عورتها الإيديولوجية حتى أنها <<أشبه بفقره سياسية أو مقطع خطابي..>> (21) ورغم أنَّ هذا الاتجاه تلاشى تدريجيا إلا أنَّ منجزه لا يزال شاهدا عليه، وهو
ما انتقده الدكتور "محمد مصايف" بشدة (22)، حيث ركز على غياب التفاعل النفسي بين الشاعر والفكرة/ القضية ، ولا يختلف هذا الموقف كثيرا عن موقف المرحوم "عبد الله الركيبي" الذي يرى أنَّ مهمة الشاعر عموما لا تخرج عن إطار كونه ناطقا رسميا وحالما باسم الشعب،لا باسمه كشاعر؟؟،فهو لا يعدو كونه << سجلاًّ أمينا لأماني الشعب>>(23). 
إنَّ طغيان التلقي النقدي القيمي إجمالا عصف بمحاولات كثير من الشعراء تجاوز المكرَّس والخروج عن دائرة اهتمامات "النقد المحاباتي" و أسميه "النَّقد النظامي " في ظل غياب نقد نخبوي عالم ينتصر للنَّص بوضعه في إطاره المناسب سواء بإثرائه كتجربة مختلفة أو توجيهه كتجربة قيد الإنجاز،وبذلك لم يستطع استغلال التنوع المنهجي والثَّراء المعارفي لينكمش في حدود النقد السوسيولجي /التاريخاني في دور من اختصاص المؤرخين ليس إلا، نقد يقرأ << ما هو تاريخي واجتماعي وإيديولوجي وثقافي في هذا التمثل الغريب الذي هو النص>>(24)، وتغييب معنى المعنى /هرمون النَّص الشعري. 
ولا يمكن تحميل النقاد المسؤولية كاملة على اعتبار أنّ نصوص هذا الشأن لم تكن بأحسن حالا لنمطيتها الإيديولوجية وشكلها التقريري مع استثناءات قليلة جدا،وتلاشي شخصية الشاعر في النَّص باعتباره صانعا له لصالح فكرة قد لا يكون مقتنعا بها أصلا، أو مشككا في كثير من تفاصيلها، ، كما أنَّ لاحتكارية "مفدي زكريا" وارتباط أعماله بالثورة التحريرية أضحى هاجسا يقلق النَّاص خصوصا مع الكم الهائل من الأعمال والدراسات والرسائل التي عكفت على مقاربة التجربة الشعرية للشاعر بطريقة أو بأخرى. ــ
لقد بقي "النقد الأدبي" حبيس تكلسات المرحلة و إملاءاتها ظنا منه أنه يقدم "خدمة وطنية" بزيٍّ مدني مقتِّرا في حق النَّص ككائن إيروسي /جمالي/ممتع واضعا نصب أعينه ربوبية "المقدس الثوري التاريخي" ولم يقدم قراءة مفصلية هادئة بقدر ما اعتمد تلقيا جاهزا على اعتبار أنَّ النصوص المتناولة بمثابة "علامات مقيدة" أو "ماركات مسجَّلة" باسم الوطن مرة، وباسم الثورة مرة أخرى،والشاعر في هذه الحالة مجرد خادم للمجتمع حمَّالا لأفكاره ؛ ولم يطرح سؤال العمق،سؤال الهوية، السؤال المعلَّق إلى الآن،السؤال الذي يجب طرحه حول محدودية الكثير من النصوص جماليا،وانحراف دور الشاعر ككائن منتج/متمرد لا يخضع إلاَّ لإملاءات النَّص و اللَّحظة الشعرية.
لقد <<أخفقت التجربة النقدية في فصل الرمزي والشاعري عن الواقعي واليومي فلم تضف إلى القارئ ما يثري معرفته بالشعر الجزائري الحديث بل ربما تكون قد حجبت عنه الصورة الحقيقية لمشكلة الفراغ الأدبي الذي رافق خيبة التلقي لا من حيث خلو الشعر من الشكل المبتكر وحسب ولكن وهذا هو الأهم غياب القراءة الممكنة للكشف عن معنى ذلك الفراغ وأسبابه>>(25).
إنَّ مسؤولية النقد الجزائري تقف عند حدود الفصل بين المضمون والشكل، الفكرة والمعنى، فلم تهتم للأطر الجمالية بقدر التركيز على إنشاء منظومة شعرية/إيديولوجية تخدم أطرافا عديدة كالنظام القائم، والتنظيمات الجماهيرية في مرحلة ما، وبطاقة مرور في الوقت لتحقيق مآرب ليست ثقافية في بعض الأحيان.
إنَّ وجود استثناءات على مستوى النَّص يقابله استثناءات على مستوى التلقي النقدي تتجلَّى أكثر في نتاج الشعراء النقاد على غرار "عمار بن زايد"، و "علي ملاحي"، و"فاتح علاق" و"مشري بن خليفة" و "يوسف وغليسي" عملت على الخروج بالنص الشعري من محدوديته بطرح بدائل لم تكن متاحة سواء على مستوى نصوصهم أو على مستوى كتاباتهم النقدية مستغلين المناهج النقدية المعاصرة خصوصا الأسلوبية، ومن ثمَّة فإنَّ التلقي النقدي خرج دوره السوسيولوجي/التاريخي /الجمعي في مرحلة نعتبرها انتقالية لصالح النَّص الشعري عموما.

.نتائج:
- إنَّ النَقد الأدبي الجزائري للنصوص الشعرية المتعلقة بالثورة عند جيل الاستقلال لم تتجاوز المنهج السوسيولوجي التاريخاني ربما لمسايرة متطلبات المرحلة و إملاءاتها التي عكسها النتاج الشعري الضَّحل فنيا المتعلق بالثورة .
- الاكتفاء بالدور الواصف القائم على التسجيل في أحيان كثيرة،وعدم اختراق النصوص وتجاور التسطيح إلى العمق.
- غياب الاستقلالية/العلمية لصالح "تحت الطلب" نصا ونقدا ،وهو أفقد المنجز الشعري و النقدي كثيرا من تطلعاته.
- ارتباط الثورة شعريا بـ: "مفدي زكريا" جعل فكرة التجاوز في مخيال الشعراء أمرا ميئوسا منه وفي أحسن الأحوال "محاكاة" المنجز الشعري لشاعر الثورة الجزائرية.
- وجود استثناءان على مستوى النَّص وعلى مستوى التجربة النَّقدية كرسها بعض الشعراء النقاد الذين انزاحوا عن المناهج السياقية لصالح المناهج النَّصية على غرار الأسلوبية .
الإحالات:
(1):انظر: عبد المالك مرتاض، مقدمة منهجية في دراسة الشعر الجزائري، دراسات جزائرية،العدد:3، 2006م،ص:86. (2): ندوة بخصوص الموضوع منشور بجريدة المساء الصادرة بتاريخ: 04/07/2008 م. (3):نفسه. (4):انظر: العربي دحو،الشعر الجزائري والثورة التحريرية،مجلة،العدد3، 2005م، جامعة سطيف، ص:213-236 (5):نفسه. (6):خيرة حمر العين، مقال بعنوان: مستويات التلقي فى الشعر الجزائري. (منشور على صفحتها الخاصة في الفايسبوك). (7):نفسه. (8): محمود البسيوني تربية الذوق الجمالي /دار المعارف، 1986م، ص: 49 . (9): خيرة حمر العين، جدل الحداثة في نقد الشعر العربي ، اتحاد الكتاب العرب، دمشق ط 1، 1997 م،ص: 145 (10): مستويات التلقي فى الشعر الجزائري، (م،س). (11):محمد الأخضر السائحي،أناشيد النصر،المؤسسة الوطنية للكتاب،1983م. 
(12): محمد ناصر، الشعر الجزائري الحديث. اتجاهاته وخصائصه الفنية، دار الغرب الإسلامي،ط1، بيروت، لبنان، 1985م، ، ص:161. (13): نفسه، ص:168 (14):عزوز عقيل، نشيد الجزائر. (15):أرسطو ، فن الشعر ، تر: عبد الرحمن بدوي دار الثقافة، بيروت،لبنان، ط: 2، 1973 م، ص: 26 . 
(16): بغداد سايح، جرجرية. 
(17): عبد القادر فيدوح ، نقد معنى الشعر في الأدب الجزائري ،كتابات معاصرة ع :9 1991م، ص: 63 . (18):نفسه. 
(19): صالح خرفي ، الشعر الجزائري الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر، ص: 43 (20):نفسه،ص:95 (21):علي ملاحي ،عن شعر السبعينيات ، القارئ والمقروء ،مجلة القصيدة ،مطابع التبيين، الجاحظية ،الجزائر، ع 4 / 1995 م،ص: 84 
(22): محمد مصايف ، دراسات في النقد والأدب ، المؤسسة الوطنية للكتاب،الجزائر، 1988م، ص: 52 
(23): عبدالله الركيبي ، دراسات في الشعر العربي الجزائري الحديث، الدار القومية للطباعة والنشر، ص: 8 . 
(24):مدخل إلي مناهج النقد الأدبي، ص: 168 
(25):مستويات التلقي الشعري،(م،س)