/

مقالات نقدية

أنتولوجيا الابداع

هوامش الإبداع

قراءة في المجموعة القصصية وشوشات بعد منتصف الليل لحفيظة طعام بقلم الدكتور مخلوف عامر

جدير بأنْ يُقرأ
قراءة في المجموعة القصصصية وَشْوَشات بعد منتصف الليْل لـ: "حفيظة طعام
بقلم:الدكتور مخلوف عامر

وَشْوَشات بعد منتصف الليْل لـ: "حفيظة طعام"
  هي مجموعة قصص صدرت سنة 2008، تحمل هذا العنوان الموحي بطبيعة الكلام الخفي، وفيه تحديد للزمن الذي يتمُّ فيه هذا الكلام، إنها وشْوَشات، ضربٌ من الأحاديث تتميز بالهمس فهي إلى المناجاة أقرب. وهي-فوق ذلك- تتمُّ في وقت هو أدعى للسكون والصمت أو للخفوت (بعد منتصف الليل).
ولقد كان الليل دوْماً ملجأ للشعراء والمهمومين. فيه يخلو المرء إلى ذاته، يرى صورته ويستحضر ذكرياته موَشَّحة بسواده أو يشلّها ضياء من الأمل.منذ أن قال امرؤ القيس:
                  وليْل كموْج البحر أرخى سدوله   علـيَّ بأنواع الهموم  ليبتلي    
ثم النابغة بعده:
كلـيني لهمّ يا أُمَيْمة ناصب    وليل أقاسيه بطيء الكواكب
تطاول حتى قلتُ ليس بمنقض   وليس الذي يرعى النجوم بآيب
وحين تُمضي بعض قصصها بالقول( من مذكرات غرفتي)، فإن ذلك مما يعمِّق وحدة القاصَّة وعزلتها حيث لا تجد من أنيس يُخفِّف من وحشتها إلا الحبر والقلم(( ها أنا جالسة بين صديقتي المحبرة ورفيق دربي قلم الحبر. نحن الثلاثة لم تفرِّقنا الحياة يوماً، وحدها المحبة تجمع بيْننا وتوطد الروابط بيننا)). حنين ص:41
إنها في غرفة موصدة كثيراً ما تعاني كوابيس. ولأنها هواجس وليدة الكتابة أيضاً، فلا تتردَّد في استعمال ضمير المتكلم "أنا"، لعل القارئ ينجذب إليها، بل يتوحَّد معها فيشاركها كوابيسها وهواجسها، تقول: (( دخلتُ غرفتي أوصدت الباب خلفي ورحت أفتش في أدراج مكتبي عن دفتري الأسود أين أكتب معظم قصصي، وجدته وسط كومة من فوضى الأشياء، انتشلته برفق ونفضت الغبار عنه، شعرت بحنين نحوه، بل بحنين نحو الكتابة)) هاربة من مصيرها في قصة،ص:77
عندما تهم بفتح دفترها تقابلها فتاة حسناء تُدعى "حياة". كانت إحدى شخصياتها القصصية وجاءت تؤنبها لأنها حرمتها من الحياة لما قتلت حبيبها"أحمد" في القصة. بينما تَرُدُّ الكاتبة بأنها كانت هي التي خلقتها ولها أن تحييها إن شاءت، وإن شاءت قتلتها، لذلك تدير لها ظهرها وللكتابة معاً وتنصرف غير مبالية((مبتسمة ابتسامة مكر واحتيال))ص:86
ولأنها وحيدة في غرفة مغلقة، فإن الذات الكاتبة تحضر بشكل واضح من خلال الهموم والذكريات والهواجس والكوابيس ، لكنها لا تلبث أن تخترق جدران غرفتها لتعانق الحياة فتلتقط نماذج بشرية وظواهر تجسد حالات اجتماعية مأساوية، فتحسن وصف المتشرد الذي يتقاذفه الشارع ويطرده المتشردون أيضاً، وينتهي ميِّتاً تحت القمامة(قصة المتشرد). والمرأة الفقيرة بطفليْها وقد أُجبرت على الرحيل لأن غنيأً متعجرفاً رتَّب خيوطه وحساباته ليبني في ذلك المكان متجراً (قصة مأساة).
والطفلة التي تحضر لدى الطبيب النفساني فيحيي ذاكرتها لتبوح بما شهدته من مجازر فظيعة ارتكبها الإرهابيون بلا رحمة ولا شفقة( قصة شاهدة على الجريمة).
إنها من خلال هذه النماذج تبدو منحازة بوضوح إلى الفقراء والمعدمين، كأولئك الفِتْية الذين تنكَّرت لهم مدينتهم وقرروا أن يهجروها فلم يجدوا أمامهم غير البحر يبتلعهم فيخيب أملهم.
 أو المرأة التي انتظرت زوجها  طويلا بلا جدوى والسنون تمر، وملامح الشباب والجمال تتلاشى  من سحنتها حتى لم تعد امرأة، بل مجرد(بقايا امرأة من زمن الحب).
أو هذا المجنون ذو الهيْبة والوقار  الذي لا يسمع منه الناس إلا صرخته المدوية عند الفجر ثم يلوذ بالصمت، إلى أن  يخطب فيهم يوم تجمَّعوا في السوق ليحذرهم من الخطر الداهم، لكنهم لا يعيرونه اهتماماً حتى تتحقق نبوءته فتهتزّ الأرض تحتهم ويهاجمهم الوحش الجبلي وكأنهم هم المجانين حقا، لم يعرفوا أن الحكمة تؤخذ من أفواه المجانين، وقصة (المجنون)، غايتها الوصول إلى قول الشيخ: ( صدق المجانين وإن كذبوا)ص:14 تعديلا لقوْلهم : "كذب المنجمون وإن صدقوا.
هي تميل –عادة في مثل هذه المواقف- إلى السرد بواسطة ضمير الغائب حيث يشكل الوصف دعامة أساسية في المجموعة وهو غير بريء ولا محايد، بحيث يتدرَّج نحو بلورة موقف من الظاهرة موضوع الوصف. فتنحو في معظم القصص إلى تقديم المشهد بجمل إنشائية منتقاة بعناية كأنْ تصف بيْت قارئة الفنجان حين تقصدها.(( وقفت أمام باب منزلها.كان باباً خشبياً ضخماً تزاحمت عليه بعض الحشائش الطفيلية متخذة منه بيوتاً عنوة. تخيلته أحد القصور المهجورة في مدينة العجائب(...)جلتُ ببصري أجواء البهو البارد الفارغ من كل أثاث المتآكلة جدرانه البعيد سقفه عن أرضيته بعدة أمتار مما يضطرك إلى رفع عنقك إلى أعلى، وقد اتخذت منه العنكبوت مسرحاً تمارس فيه استعراضاتها المفضلة وتعلن بذلك امتلاكها للمكان وقِدَمه))ص: 57،58.
حين تلتقط  مظاهر البؤس والحرمان والجريمة والشعوذة، فإنما تصوِّرها لترفضها وتُدينها. ولعلها تقف على رأس المحنة في كل المآسي من خلال حاكم يتشبَّث بعرشه، تنتابه الوساوس ويتوهَّم أنهم سيسلبونه العرش، ثم  ينتهي إلى أن يحرق العرش ويحترق معه.
إذا كانت القصة القصيرة ومضة من الحياة، أقرب إلى لحظة شعرية، يُستغنى فيها عمَّا يمكن الاستغناء عنه، فإن"حفيظة طعام"، لديْها قدرة واضحة على الاقتصاد في اللغة، واختيار العناوين المعبرة، ولو أن القصة تتكثَّف- أحياناً- لتقترب من الخاطرة، ومن القصة القصيرة جدّاً أحياناً أخرى. وتُقرأ-في كل الأحوال-بنكهة خاصة سواء من خلال زاوية الرؤية أو اختيار العبارات أو توزيع الفقرات.
 وإنه بإمكان القارئ أن يفهم الحوار الثنائي من غير حاجة إلى تعيين الشخص المحاوِر بذكر الضمير المنفصل،(أنا أو هو أو هي )كما حصل في بعض المواضع، كما يمكنه أيضاً أن يحدد هوية الهاربة دون حاجة إلى التصريح بأنها هاربة من قصة.
في هذه المجموعة  قد يتحدد المكان بطريق إلى مُنجِّمة أو شارع لمتشرَّد أو قصر لسلطان مهووس ولكنها جميعاً تنطلق من مكان واحد وتعود إليه. إنها الغرفة الموصدة التي تحتضن غرفة أخرى هي مصدر كل العمليات، إنها الرأس/ الدماغ الذي يخترق الحواجز والحدود الزمنية ليسبح في اللازمن.
يصول ويجول ليجمع شتات الذكريات والأطياف والنماذج البشرية المؤثرة، فيحزن لحزنها ويتألَّم لشقائها، ويشفق على ضياع حبها، وعندما تضيق عليه الحال يحن إلى الحبر والقلم والورق ليمارس عملية تطهير ترفع عنه حجاب اليأس وتعيد إليه نبض الحياة، حيث لا بد أن تستمر الحياة حتى     لا يخيِّم الظلام وقبل أن يسود صمت المقبرة. تماماً كذاك الجنين الذي ظل يحلم في قصة(حلم معاق) بالخروج إلى الحياة وفي ذهنه مشاريع يخلَّص بها العالّم من جبروت المادة، ويرسي قوانين للسلم ونشر الخير، ولكنْ لمّا يستسلم للقنوط يولد معاقاً وتنجو الأم بعد مخاض عسير.
فإذا لم يكن للمرء غير الكتابة ملاذاً، فليكتبْ إذا حظي بنعمة الكتابة حقّاً، لأن الزمن المتمرِّد لا يُحتجَز وليس في مقدور المقبرة أن توقفه.