الغيوم الآفلة قصة قصيرة بقلم قلولي بن ساعد
قصة قصيرة
قلولي بن ساعد*
كانت ليلة من ضياء  في صيف رائق منعش دافق ساطعة تتفصد فيه نجوم السماء ..    خلت منه الزوابع الرملية التي إعتاد عليها في مساءات   قريته الهادئة الرافلة في ثوب السكينة والدعة الساحرة الشديد الهوس بها ...هذه الليلة ليست كسابقاتها من ليالي الأنس والحلول في أباريق الروح ومهج اللوعة التي في الصدور .. يجيء الآن إلى مرتع حبه ووهج الفضاء الذي أنار دنياه  ...هويعلم أن مصدر وجعه ومحنة هذا القلب  المنكسر " الياقوت  "  .. قد غادرت مع أسرتها الصغيرة إلى ضيعة أخرى من أرض الله الواسعة  بحثا عن الكلأ والعشب و" الصابة "   كعادة كل البدو الرحل حين يأتي اليباس على وهاد أراضيهم أو ما تبقى منها وتجف من ثمرها وخيراتها   لكنه لم يخلف الموعد وجاء مثلما كان يجيء كل ليلة إليها قادما من أقاصي القرية نازلا المنحدر الصخري الذي يصل حارة الزيقم بالبساتين الجرداء التي أتي عليها زمن القحط وعبث الإنسان  والإهمال ولم يبق منها إلا الإسم بعدما اشترى بعض هكتارات من فدادينها  أحد المستثمرين بالدينارالرمزي وهو من وجهاء القرية وأعيانها وجعل من مالكيها مجرد أجراء عنده يلهثون  وراء راتب هزيل لا يكاد يسد منافذ الجوع والطوى المستبد بهم ...  معه فقط تلك القصبة التي لا تفارقه أينما توجه أورمي بصره  ...خياله البعيد لازال متمسكا بها يتذكر كيف كان كل ليلة عندما يأتي إليها بكل وجعه واللوعة التي تسكن وجدانه الهش الضامر المضطرب لحظة رؤيتها  فما أن ينسف على قصبته   فتطلق زفيرها وإيقاعها الحزين كرسالة منه إليها أنه قد وصل وهو بانتظار مرآها الجميل فتخرج من باب كوخهم المتاخم لسواقي الماء وخريرها  التي تتزود منها كل البساتين الضامئة بما يروي عطش التربة وإنضاج غلتها تجر وراءها العجل الصغير زاعمة لوالدها  أنها بصدد جر العجل ليشرب قليلا من الماء  ...هو في هذه الليلة وحده وليس معه سوى قصبة الناي يبثها شجونه وشكواه وهذا الألم الكبير الذي يسكنه فيجرح قلبه الضعيف المستسلم لهذا الفراغ الموحش الذي يكبر فيه ...ناجى الغيوم ..سأل خرير المياه عنها والروابي والمروج  ...كانت ترد صدى صوته الجداول والسواقي وإنثيال   أوراق شجر الصفصاف الممتدة بأذرعها الطويلة من أقصى العين إلى أدنى الفلوات الفسيحة المطلة على قباب الأولياء والصالحين وحدود السهوب المترامية على خط الأفق النائي المتطاول بتضاريسه وشعابه السحيقة ...راودته فكرة العودة إلى بيته عندما تقدم إلى مدخل كوخ الياقوت  فوجده خاليا من ساكنيه ..تألم كثيرا ..بكى كما لم يبك أبدا في حياته ...مسح دموع عينيه بمنديل أزرق إقتطعه من قماش" روبة نايلي "* لأمه المرحومة من فساتينها الكثيرة التي تركتها له ليشم فيها رائحتها ولسبب ما لم يجد تفسيرا له  تراجع  عن قراره واتجه صوب هضبة ترابية غير بعيد عن مكان يسمى " ضاية التلية " يقول الراسخون في الحكاية   أنه المكان الذي سقطت فيه شهيدة العشق والصبابة  وهي امرأة" تلية" قدمت من  وهران  في مهمة طبية لتوعية النساء البدويات بضرورة تحديد النسل وترك مسافة للتباعد بين ولادة وأخرى غير أنه   سرعان ما جرجرتها لوثة عشق مجنون طافح بالجوى  لرجل بدوي فتخلت عن مهمتها الطبية  التي جاءت من أجلها لما لم تستطع ضبط النفس الملتهبة لغواية رجل بدوي سكنتها واستبدت بها إستبدادا مؤلما وفضيعا ... أعطاها في البدء  وعدا بعدم التخلي عنها والإمعان في المحافظة عليها والإرتباط  بها غير أنه اصطدم  برفض أبويه وسطوة شيخ القبيلة ومن يومها اختفت كل أخباره ولا أحد إلى الآن يعلم أين عاش بقية عمره وكيف سارت به الحياة بينما ظلت لأشهر قليلة  محبوبته هائمة على وجهها في الفلوات البعيدة وعلى ضفاف   القرية إلا أن أصيبت  بالجنون أياما بعد ذلك عثر عليها أحد الرعاة مرمية في بئر سحيقة منتفخة بالماء ... أخرجها بصعوية ومشقة  وقام بتبليغ فرقة الدرك الوطني التي شرع قائدها في فتح تحقيق في سبب سقوطها ووفاتها تبين له على إثرها  أنه سقوط لا إرادي نتيجة الغيبوبة التي تنتابها بين الحين والآخر ثم وجه دعوة لإمام  القرية  لأقامة صلاة الجنازة عليها  ودفنها في مربع جبانة سيدي إمحمد بن صالح ومنذ ذلك الوقت سمي المكان الذي كان مسرحا لسقوط عاشقة" تلية"  جاءت من أجل مهمة طبية فسقطت  في بحر العشق " بضاية  التلية " خطرت بباله فكرة أن يعزف على كل الألحان الجميلة من فم قصبته التي كانت الياقوت تفضلها عندما تريد أن تنشد على مسامعه بصوتها الساحرالملتهب  بعض ما تحفظه من الأغاني البدوية ثم تطبع على جبينه و شفتيه   قبلة شرهة محمومة بجهد من تريد أن تستعيد كل أنفاسها الوهاجة فعل ذلك إمعانا في الخروج عن رعب الوحدة والفراغ الذي تركته فيه ومضت لحال سبيلها ....قضى الليل بأكمله  يبث قصبته شكواه وأنينه ومواجعه الطافحة بالألم والحرقة والآه ولم يستفق من سكرة الحنين والوجع الذي استبد به إلا مع حلول الفجر وبزوغ ضوء النهار ....كان كل ليلة يأتي إلى أطلالها الباقية يتمدد بكامل جسده المنهك أمام "ضاية التلية " لينشد مواويله الحزينة و قد تحولت إلى إكسير يقيه من الوحدة والفراغ المحيط به وحين يشعر بشواظ المحنة واللوعة  التي لا شك أنها تؤلمه وهو يقف على أطلال" مرسمه الخالي" والديار التي أفرغت من ساكنيها وخلت منها الحياة ...في أوج كل ذلك لا يملك سوى أن يردد منشدا على إيقاع قصبته " مرسم ولفي كي خلى وعلاه نجيه / / مسبوقة لأنجاد خلاتو خالي " *   ... ثم لا يستفيق من شروده ومن الألم الذي يعصر قلبه الهش عصرا إلا مع انبلاج ضوء النهار فيقفل عائدا إلى بيته مفتعلا بعض الهدوء والسكينة كي لا تظهر على ملامح وجهه علامات الإنقباض والألم والبكاء خشية من استخفاف الآخرين به
والسخرية منه ومن لعنة العشق والحنين إليها ....وظل على حاله ... ذبل وجهه .... تدهوروضعه الصحي  ...صار شاردا ساهيا عن الدنيا قليل الكلام لا يتناول من غذائه اليومي إلا القليل مما يبقيه على قيد الحياة والإنتظار ... ..إنتاب والده  شعور حزين خشية على ابنه البكر ... طاف به كل أماكن العلاج حمله  إلى الأطباء  ....إلتمس لأجله بركات  الأولياء والصالحين  ... لقد بات واضحا أنه الآن فقط صدق نبوءة الخوني بودربالة  الذي صادفه بحوش الشيخ النعاس عندما أخذه إليه وكان يجر معه تيسا أسودا أراد أن يذبحه إطعاما للمساكين والفقراء درءا عن ابنه كل علامات الحسد و" التابعة "* لقد أخبره الخوني بودربالة  أن ابنه به مس من الجن وعندما كان قد يئس منه استسلم للقدر والمكتوب ..أراد نسيان أمره ....وفي مساء ذلك اليوم الخريفي الممطر لم يصدق مارأى عندما لمح في آخر الشارع ابنه باسما يحمل معه قفة مليئة بالخضر والفواكه الطازجة  وقد استعاد ألقه وهيبته  ..سقطت دموع الفرح من عينيه ...دخل بيته مسرعا ليزف الخبر إلى زوجته ...كان  ابنه الأصغر يصرخ بأعلى صوته فرحا إيذانا بعودة كل البدو الرحل الذين غادروا مضاربهم صيفا كلهم دون استثناء  ...لم يفهم المغزى من ذلك .....قامت زوجته بجره إلى فناء البيت ..أزاحت عن وجهه الحزن والحيرة وعلامات الإستفهام البادية عليه .... قصت عليه  قصة المهدي  والياقوت كاملة مثلما سمعتها من أفواه النساء ومن حناجر الأطفال والمغنين والدراويش  تنهد طويلا.... شعر بالإرتياح والسكينة ...شوهدت الياقوت  بعد أيام تتردد على محلات بيع الألبسة النسائية لتختار لنفسها أزهي الثياب وفساتين الفرح    قبل موعد زفافها ....كان المهدي  يراقب المشهد من بعيد بينما ليلا يتوجه كعادته إلى " ضاية التلية"  ينتظرها مثلما تعود  ... ينسف على قصبته ألحان  الأمل والوصال الذي ظنه بعيدا عنه ...  يحاول القبض علي  رعشة اللقاء  ليمزق آثار غيوم محنته الآفلة وتسابيح  شوقه المتراكم فيه    وهو الذي ما غادره طيفها أبدا  حتى عندما كان ساهيا شاردا سابحا في بحر الغياب والجنون    ... انهمك يحاكي إيقاع المواويل الصحراوية الشفافة   التي تنساب من حنجرتها الدافئة حاملة معها كل معاني الحنين والإنكسار واللوعة  ...مد بصره قليلا ...عاد إليه طيف شهيدة العشق والصبابة تلك المرأة " التلية " القادمة من وهران .. شعر بها وبمأساتها ...لأول مرة يرتعش من هول ما سمع عنها  ويتحسس وجعا غائرا... كان يحلو له حين يستعيد قصتها  أن يقارن بينها وبين إيزابيل إيبرهارت رغم ثقافته المحدودة ... هب الرجال والنساء ..بدأوا يتوافدون على البيت العامر بينما  موائد  الطعام واللحم تتصدر المشهد   وسط زغاريد النساء ورقصات  الدراويش والسالكين أوبتهم  التي كانت تقام في طحطاحة ترابية خلف البيت الكبير  وأصوات  القطب الصمداني سي أحمد الأمين تخترق السمع فتستقرعميقا  في وجدان  القرويين مبددة الحرمان والفراغ  والتيه  
__________________
*البيت الشعري الوارد في النص مأخوذ من قصيدة " قمر الليل " للشاعر الشعبي عبد بن كريو
* "التابعة" يعنى بها  في اللهجة الشعبية قلة الحظ وسوء الطالع
                 *" روبة نايلي فستان نسائي يتميز بخصوصية في التصميم والخياطة تختص به المرأة في منطقة أولاد نائل
الجلفة في 14- 04 - 2014
ــــــــــــــــــــ
 
 



 

