المألوف واللّامألوف في التركيب الساخر (قراءة في وفاة الرجل الميت)
المألوف واللّامألوف في التركيب الساخر
(قراءة في وفاة الرجل الميت)
من إعداد:حفيظة طعام
تتخذ الكتابة الإبداعية عند الكاتب الجزائري
(السعيد بوطاجين) مسارا مُنعرجا ونمطا مُختلفا ,يجعله يتخطى حدود الواقعي والمألوف
ليطير بالمتلقي نحو عالم يُبهره لأنه يسمو به على السائد والمبتذل والمكررّ وما
قرّ في طرف اللسان من المتداول المعياري .فهو يغوص في عمق الذات والمجتمع والأشياء
...مرتكزا في ذلك على المفارقة بين الماضي والحاضر لذلك تحضر السخرية عنده بشكل
كبير فتتجمل بها نصوصه وتتميز ،فيعقد معها رهانا وثيقا لا يمكن فكّ شراكته. لهذا
السبب يجد قارئ أعمال (السعيد بوطاجين) نفسه أمام كاتب مختلف يَصدِم باستنتاجاته
أفق انتظار المتلقي كما تُخَلْخِلُ قناعاته فتستدعي منه إعمال الفكر والتأويل.
تحاول هذه القراءة ،بداية من المنطلق السابق أن ترصد أهم
المرتكزات التي أسس عليها الكاتب نصوصه ومنحت الحكي سحرا متفردا وطبعت الكتابة
بطابع مختلف فتظهر من خلالها قدرة المبدع على التعبير عن الأشياء البسيطة بتراكيب
غير مألوفة  .
1_شعرية السُخرية :
   إن الكتابة بالسخرية من أهم
العناصر التي جعلت العديد من النصوص توصف بالتميز والتفرد . فقد رفعت السخرية  في زمت مضى من شأن رواية "دون كيشوت"
فاستطاعت أن تسجل اسمها ضمن منظمومة أجمل الروايات. واستطاع سرفانتس بفضل الطريقة
الساخرة التي انتهجها في الكتابة إشاعة هذا النوع من الكتابة بين أوساط المبدعين
غرضهم من وراء ذلك نقد المجتمع وتحطيم كثير من الأصنام .
ويُعرف "جورج لوكاتش" السخرية بقوله:"وتدّل السخرية من حيث
هي مكون للجنس الأدبي الروائي، على أن الذات المعيارية والمبدعة تنشطر إلى
ذاتيتين: إحداهما هي تلك التي تُجابه ، من حيث هي طوية ، القوى المركبة الغريبة
عنها ، وتجهد في سبيل جعل محتوياتها نفسها تخيم على عالم غريب ، والأخرى هي التي
تكتشف الطابع التجريدي لعالمي الذات والموضوع ،وبالتالي ,طابعها المحدود. 1
   وتتمظهر السخرية في قصص السعيد
بوطاجين في مستويات عدة ،كما تنهض على أساس المفارقة الضدّية 2 فكلما
ازداد حجم التناقضات في الواقع ازدادت سخرية الكاتب هذا ما يجعله يرحل إلى الماضي  ليحتمي به باستحضاره والعيش في ظلال ذكرياته
للهروب من الواقع المأساوي الذي يَخنق الذات ويُقوقعها "بين الحلم والذكرى
كان الصوت يخترق الذاكرة ليضفي عليها مسحة من الكآبة تجعلني أتشبث بكل شيء ،بالفراغ
الممتد حتى الصرخة الأولى حيث بذور الغابة البشرية الآثمة"3
تضيق دائرة الواقع وتتأزم الذات فتصرخ بألم"آه كم أتمنى لو أكون في
هذه اللحظة  محموما  في قرية بعيدة/على سرير غريب/وتحت سقف غريب
/وامرأة عجوز لم تقع عيناها علي من قبل /تسألني، وهي تعصر منديلها المبلل فوق
جبيني من أي البلاد أنت يا بني ؟ فأجيبها والدموع تملأ عيني :/آه يا جدتي .."4
تطمح هذه المجموعة إلى إضفاء طابع ساخر على الحكاية والمحكي مُوهمة في
ظاهرها بأن ما تسرده لا يرقى إلى مجرد قلب في موازين اللغة وقّص غرضه التسلية
والضحك ، لكنها على العكس من ذلك تسعى بعمق وذكاء إلى توظيف "سياق
المفارقة...ليتحول الهزلي عبر قناة القراءة المستمرة والتأويل ،وبعد تفكيك شفرات
النص  إلى جادّ
خالص"5 فالكاتب ينطلق من ذاته ومن واقع مأزوم نخرت قاعدته جهات
متعددة برؤوس كثيرة فتحولت الذات إلى لا شيء ويمثل  لها بشخصية عبد الوالو الذي يُنشد الّلانتماء
ويعيش في اللّامكان... كل شيء أصبح باهتا ومعدوما حتى المدن أضحت مجرد أجساد تمُارس
عليها كل أنواع الرذيلة. يصور عبد الوالو مدينته بقوله:"هذا النعش الفسيح
يسمى مدينة" 6 فهي فضاء فارقته الحياة....
وسط هذه الأجواء الموبوءة تشعر الذات بالاختناق فتلوذ
بالأحلام كحبل نجاة إلا أن حدّة الأزمة تزيد فتفقد الذات لغتها وطموحها وحتى
الكتابة لم تعد تسعفها كطريقة للهروب من عالمها والتعبير عن دواخلها فيصير العالم
كتلة من المآسي... يعبر الكاتب عن هذا الموقف ساخرا باكيا:"كل لغات العالم لم
تعد تحتوي روحي .وفي هذه الدقيقة تماما اشتقت إلى قلم بأنياب وألفاظ بمخالب حتى أقرض
التحيات والأحلام المدسوسة في معطفي ،أصبحت أتوق إلى الكوابيس والمسخ. فماذا لو
نهضت من نوم عملاق ووجدت نفسي بأذنين طويلتين وأربع قوائم؟ جحشا مهذبا يرعى في
التلال والهجرة ،إن جلدي هذا لم يعد يغطي تنهداتي الجاحظة...."7 .
يبدو أن الأزمة بدأت صغيرة ضيقة فردية ثم وطنية لتشمل العروبة كاملة ليجد
الفرد نفسه مجرد عربي صُودرت عروبته في غفلة منه فتلاشت الابتسامات كما الأحلام
كما الطموحات "فلماذا تريدون مني أن أبتسم في هذا التابوت العربي؟ آسف إني
بلا خدود، وهذي الأسنان المبعثرة في فمي لا تصلح إلا للاصطكاك وعصف الريح"8.
إن استراتيجية المفارقة التي اعتمدها الكاتب أضفت على النص مسحة هزلية في
ظاهرها جادة في باطنها. والمفارقة هي "استراتيجية الإحباط والّلامبالاة وخيبة
الأمل ,ولكنها _في الوقت نفسه_تنطوي على جانب إيجابي، فقد ننظر إليها على أنها
السلاح هو الضحك، الذي يتولد عن التوتر الحاد، والضغط الذي لابد أن ينفجر "9
تشتغل السخرية في هذه النصوص كوسيلة دفاع ومقاومة لكل أشكال الاضطهاد
والظلم التي تُمارس ضدّ الشخصية من طرف جهات معنية حكومية وأخرى سلطوية فينتقد
الواقع:"في سره لعن الخطب والإذاعات وهيئة الأمم المتفرقة وجمعية الدفاع عن
حقوق القراصنة والمقاولين ..."10 وهي حال الجامعة التي تعيش نفس
العبوس وكل مظاهر الجهل .."طالبات وطلبة يجرجرون حيواتهم الفتية ، أقمار
مهملة ماضية إلى الوجوم والنواميس والاحتضار المبكر، لاشيء يطعم تلك الخطى المشرفة
على السكتات الأدبية المتربصة بالخلايا.." 11 وتلك أيضا حال الأدب
والثقافة والنقد ...
يبدو أنه لا شيء يدعو إلى الأمل  ويُبشر
بغد لعله يكون أفضل فكل الفضاءات تُعاني البؤس
وكل أشكال الاضطهاد والغُبن..هذه المظاهر بدورها استفزت الكاتب فكشف عنها في نصوص
ساخرة تهكمية تحمل بين ثناياها رسائل مشفرة يكشف عنها المتلقي بقراءة واعية فكلما
زادت المأساة ازدادت السخرية.
  ويُمكن استخلاص أبعاد السخرية
وكيفية تحققها في هذه المجموعة القصصية من خلال المستويات التالية:
أ_حكي ساخر:
 يلون هذا النوع من الحكي كل
المجموعة القصصية ويطبعها فالنصوص مكثفة بالسخرية وأسلوب التهكم الذي يحيل إلى
جدية فائقة وإلى حقيقة لا يمكن التغاضي عنها
وتفادي آثارها الوخيمة والموجعة حدّ بكاءِ الضحِك من شدة الوجع ففي قصة (لاشيء)
تقريبا تغطي السخرية كل القصة. فالشخصية تعيش عبثا رهيبا إلى درجة تفقد فيها
القدرة على معرفة ذاتها فجاءت لغتها مبعثرة تعبر عن لاتوارنها
أما تراكيبها فمشتتة كروحها متعبة كجسدها منهارة ككيانها ...ولعل هذا المقطع يُعبر
عن ذلك:"من المرآة المنتصبة أمامي كالخطيئة خرج الصوت وتشكل وجهي، وجه رجل
يحس بعبثية تدوين آرائه، رجل صغير يحاول كتابة فكرة ما عن الحجارة والأجراس المعلقة
في الرقبة وعن السفن الثلجية والاكتفاء الخرافي والجري (....) عن التبن وغبار الثقافة
يتحدث أنبياء المدن المضحكة، وباختراعاتهم الذابلة يفتخرون ونحو الأعالي يتسابقون...ومن
حيطان غرفتي يتسلل الشيب، ولا شيء في الشوارع إلا الليل والنقيق والمواء، وثمة
مصابيح ملونة تتدلى على الأعمدة لتنير الشوارع دون النفوس، النفوس التي خلقت من
الحرائق والكآبة والظلام."12
إن السخرية من خلال هذا المقطع تنبع من واقع الشخصية وما تحكيه بحيث تقوم
بفضح واقعها وما يحيط بها من زيف فتواجه القارئ بخطاب حارّ ومفجع فما فائدة أنوار
اصطناعية مادام الظلام يسكن كل النفوس؟ كأن الكاتب يريد تبليغ رسالة مفادها أن
التغيير يبدأ من الداخل وأن الأقنعة سرعان ما تزول وتسقط .
إن هذا النوع من الحكي الساخر يُقدم صورة حقيقية عن المجتمع وحقيقته
الفكرية والاجتماعية كما أنه صانع "لإطار هجين يتدفق بتراكيب مزجية، ومختلطة،
وملتبسة ,لكنها دّالة"13إلا أن دلالاتها لا تسبح على سطح النص
وإنما تحتاج إلى الغوص في أعماقه لبلوغ الحقيقة وفك شفرات الرسالة عندها يقرر
القارئ ويُعرب عن شعوره بالضحك أم البكاء؟
ب_شخصية ساخرة:
تكمن أهمية الكتابة بالسخرية في المجموعة القصصية في كونها تنطلق من واقع
حقيقي مخيل فالحقيقة تشي بمأساوية الواقع المعيش وبواقع مدننا الموبوءة والوطن
المغدور. وقد بلغت السخرية ذروتها عندما كشفت حقيقة ما نعيش وما نعانيه وقربت
المشهد من القارئ فترفع عن ضحك وشعر بسوداوية الموقف وبحجم الكارثة.
وقد تقاسم حِمل هذه المحنة في المجموعة القصصية شخصيات ساخرة متعبة ومغبونة
تجر ثقل أذيال الهزيمة وتتجرع مرارة خيبات هذا الوطن هذا الفراغ الشاسع الذي يملأه
الّلاشيء اللّامعنى العبث اللّالون...كل شيء أصبح معدوما فهذا عبد
الوالو"يحاول جاهدا أن ينسى جزئيات الليالي التي لا تشبه شيئا(...)والذات
المثقوبة تتسلى بترتيب الأيام التي سقطت من التقويم الزمني ، ويرى نفسه قطعة من
رصيف منسي، رصيف قانط مزروع بالأنين وخلاصة الأيام القاطبة
ذات الإيقاع الواحد ثم لا يلبث أن يتذكر بلاد الغربة والكفار التي آوته ولم
تقصر..."14 إنها حياة بلا زمن فكل الأزمنة فقدت قيمتها فاتسعت
الهوة بين الذات والزمن وذاتيتها فكيف لنا 
أن نتخيل ذاتا مثقوبة ؟ تعيش بلا أماني
وأمنيات وتشبه أي جماد تعيش في اغتراب يجعلها تفقد القدرة على نفسها كما تفقد
موقعها وقيمتها ضمن العالم وتتيه في متاهة الزمن ...
إن وصف الذات بهذا العمق وهذه السخرية الّلاذعة يُبين قدرة الكتابة على
استشراف المستقبل وتنبؤ ما سيحدث. ووصفها
بهذا الذكاء وهذا الأسلوب اللّامألوف أيضا يشرح البعد الفلسفي للكاتب ونظرته
للحياة ...إنه وصف لا يمكن الاستغناء عنه في مواقف إبداعية كهذه. كما لا يمكن اعتباره
مجرد آلية من آليات الكتابة ، فالكاتب ينطلق في وصفه من حاضر الشخصية ويعود إلى
ماضيها ليستشرف مستقبلا لن يكون إلا باهتا فالحاضر يحيل بدوره إلى المستقبل وهذه
الرؤيا لن يمتلكها إلا ذو فراسة وحكمة وذكاء. والواقع يثبت أن الذات تعيش في عصر
معقد ومركب فلن يكون وصفها بأسلوب مألوف وعاد أمرا مُستساغا
ولأن الأدب يُساير تفاصيل هذه الذات ويُعبر عن آمالها كما آلامها فعليه أن يواجهها
بنفس التعقيد والتركيب بأسلوب لا يكتفي بالسطحي والساذج والظاهر للعيان وإنما يغوص
في عمق الحقيقة  ليكشف عنها وتلك أيضا مهمة
القارئ الواعي. وكلما كان الكاتب ساخرا كلما كان أسلوبه أكثر دلالة وتعبيرا.
وهي الوازنة عندما تحكي مأساتها وتتحدث عن جرحها  تختصر همّ وطن بأكمله إن لم تكن هي الوطن الذي
فقد كل توازنه في رحلة زيف محفوفة بوعود كاذبة ولعل الموقف يعبر عن جزء من حالٍ
آلت إليه:"أواه يا وازنة، في كل الخرائط يتشابه الهم والقلق إلا هنا.همك من
سلالة البراغيث لابد..." 15.لتواصل رحلتها و"بين الضياع
والضياع تتأرجحين، وصوتك الأسير يرن كجرس مبحوح في كنيسة هجرها الخلان. ولا أحد
يسمع صمتك...عندما تغني الأموال تسكت الموسيقى ويسكت الشعراء أيضا."16.إنه
عصر المادة  والضياع  وزمن العبث. والهمّ متنقل في سلالة هذا الوطن
بالوراثة. ليموت في الأخير كل الرجال وهُم أحياء ويعلن بوفاتهم جهارا ليعشش الخونة
في كل الزوايا والنواحي. ويبقى الحائط القديم كتاب تاريخ يدونون عليه مآسيهم
وخيباتهم وأحلامهم .... ويبقى الوطن قصيدة تلحنها كل ذات مقهورة في شوارع المنفى
وفي نفسها تعيش أمنية :"ألا أموت غريبا ميتة الشبح"17
    إن هذه النصوص القصصية الساخرة
منحت للشخصية سلطة السرد لتستمع لصوت آهاتها ومعاناتها ولما يحدث في عالمها من
تناقضات فتخلق لنفسها لغة خاصة بهذا الانشطار وبفقدان الأحلام وعبث المكان كما
الزمان. 
2_التركيب
اللاّمألوف:
تتصف
هذه المجموعة القصصية بكونها قصص لغوية بامتياز .فاللغة فيها تترفع عن مستوى
العادية وتتحول إلى مادة أولية تشكل عالم القصص وتطبعه بطابع خاص وجمالية مختلفة.
إن التشكيل
اللغوي في هذه المجموعة القصصية. يبتعد كل البعد 
عن اللغة الجاهزة والمتواضعة فالنصوص تصاغ 
"بلغة معيارية لا في معجمها فقط، بل في بنيتها التركيبية كذلك حيث
ينتج النص، فيما يشبه تولدا ذاتيا، بواسطة إعادة إنتاج لغة مسكوكة ومقلوبة لا أثر
فيها لأي خرق أو إبداع ،هنا تكون اللغة تقريرية" 18هدفها تبليغ
رسالة فقط لكنك وأنت تقرا أعمال (السعيد بوطاجين) لا تجد هذا النوع من اللغة إلا
نادرا وإن صادفته فلا تأمن سذاجته فسرعان ما ينقلك الكاتب إلى أجواء لغوية أخرى  فهو قد تجاوز حُدود العادي  والّلامألوف فجاءت تراكيبه ذات دلالات عميقة
ومتناسلة تُكسر أفق التفكير والقراءة عند المتلقي فتنزع الكتابة القصصية عنده
"إلى تجريد هذا الواقع ومفارقته,حيث تستغرق أقصى حد في جعل الكلمات تُلمح لا
تصرح(...)فيتحول المؤلف إلى راءِ للأشياء من خلال خلخلة متمادية عارمة للحواس لا
بهدف الاقتدار على رؤية الّلامرئي فقط، بل كذلك بهدف إدراك المرئيات " 19.
في هذا
المستوى الثاني  يخوض بوطاجين تغريبة
الكتابة عازما على خرق كل مألوف وتكسير كل نمطي ,مبتدعا علاقات  تركيبية جديدة بدلالات كثيرة ,ناحتا ألفاظا غير
مألوفة .عندها ترتقي اللغة ويشعر المتلقي أنه يقرأ لغة أخرى لا تلامس الواقع بل
تعرّيه وتشهر به وتفضح خيباته فيدرك  أن
هذه اللغة وحدها قادرة على التعبير عن الذات والواقع.
ويظهر هذا
الخرق عند الكاتب بداية من عنوان المجموعة (وفاة الرجل الميت) التي يقف المتلقي
عندها طويلا وعميقا، قد يضحك قد ينعت الكاتب بالجنون وقد يطرح الكتاب جانبا ويتخلى
عن القراءة ...لأنه أدخله في دائرة جنون اللغة وبهتانها واحتيالها وغرابتها كما
أنه لم يألف هذا السياق الجديد، فكيف لميت أن يُتوفى ؟ لمذا هذا الإعلان عن وفاة
رجل قد تُوفي؟ أم أن الوفاة لا تعني في ُعرف الإبداع الموت؟  لكن إذا علم القارئ أن الأشياء تُعرف بأضدادها فإنه
سيفهم ربما أن هذا الرجل قتلته المأساة والخيبات وهو حيّ فكأنه حيّ ميت إلى أن
أودت بحياته نهائيا فأعلن الكاتب رسميا وفاته 
كتابة  بسخرية باكية. فما جدوى حياة
رجل كان في الأصل ميتا وهو حي؟؟   إذا هذا التعبير غير المألوف هو السبيل الوحيد
للتعبير عن واقع مأزوم ولأن حجم الأزمة كبير كان على اللغة أن تكون أكبر لتستوعب
حجم المأساة ولن تكون أكبر إلا إذا اخترقت أفق التوقع لدى القارئ.
إن صياغة
العنوان بهذه التشكيلة الساخرة  والمجنونة
وغير المألوفة  تُميز أسلوب الكاتب من جهة،
كما تصف الواقع بدقة وهي أيضا تستفز ذوق القارئ من جهة أخرى وتجعله يتخطى هذه
العتبة ليدخل عالم النص ليكتشف إن كان هذا الجنون يُحاصر كل جسد النص أم أن الكاتب
سرعان ما ستتعبه مسالك اللغة فيستسلم ويتغير أسلوبه؟
   إن قدرة الكاتب على النحت في التراكيب وخلق
تراكيب جديدة من لَدُن الأصل المألوف أنتج تراكيب جديدة لم يألفها القارئ ولم
يتعود عليها، وتجلى ذلك في مستويات متمايزة كما تجسد في حقول معرفية كثيرة، مارس
فيها الكاتب سلطة التصرف واستنساخ تراكيب جديدة وكائنات لغوية هجينة ، وفي
المجموعة القصصية موضوع هذه القراءة نماذج كثيرة تمثل  هذا الخرق :
1_من الخطاب
القرآني:
قوله مثلا:
_"صدق
جدّي العظيم"20
_"كان
الفرح فرضا على كل مؤمن ومؤمنة"21
_"إلى
ذهنه عادت إرم ذات العماد والأوطان التي تحمي أبناءها..." 22
_"ألم
تر السماء كيف ثُقبت والأقلام كيف جُلبت والنفوس كيف غيّرت؟"23
_"وحدث
أن طرقت باب كبيرهم الذي علمهم الخُبث"24
إن هذه
النماذج المتصرف فيها من قبل الكاتب نجد لها
أصلا في القرآن الكريم ولكنه لم يوظفها لغرض الاقتباس كآلية في الكتابة، وإنما
استحضرها ليقوي فكرته ولتوضيح زوايا معتمة في الواقع فعندما يقول "كبيرهم
الذي علمهم الخبث " فاصل هذه الجملة مستحضر من القرآن الكريم , الآية 71من
سورة طه بعد قوله تعالى :"إنّهُ لَكَبيركُمْ الَّذِي علِّمَكُمْ السّحْرَ"
يشير إلى أن رأس المحنة في هذا الوطن هم من يعتلون عرشه والخبث حيلة ومظهر خطير
أصاب أبناء المجتمع وتسبب في ظهور مظاهر أكثر انحطاطا أثرت بدورها سلبيا على جوانب
كثيرة. وعندما يقول :"صدق جدي العظيم"ليوضح فكرة مفادها أن صورة الجد في
أذهاننا تتعلق بالقدسية والصدق كما تستحضر هذه الجملة الزمن الماضي عندما
"كان الفرح فرضا على كل مؤمن ومؤمنة "كل إنسان لديه الحق في الفرح
والسعادة . وارتباطه أيضا بمعالم الصدق والجمال والإيمان أما الحاضر فقد ارتبط
بالكذب والنفاق والزيف....فكيف لنا أن نتفاءل بالمستقبل في ظل هذه الظروف؟؟؟
2_نماذج
أخرى من التراكيب غير المألوفة:
يقول
الكاتب:
_"مع
الليالي المعتمة وحماقات البشر جاء عبد الوالو شجرة حافية تبحث أرض رؤوف تقيها
الجليد والفظاظة ...ومع الأيام رأى الوقت يتساقط أمام عينيه وأبصر عمره يسبح في
مستنقعات التنظير وعلم الكلام."25
_"مدن
فقدت الحياء وأضحت بلا علامة"26
_"كطقس
الخريف أصبحوا وزهقت الكلمة العذبة"27
_"...أجسادهم
من الحطب وفي أعماقهم يعوي القمر"28
_"
خيالي بؤس وفساد.."29
_"هل
وجدت اسمك؟"30.
_"...محاولا
فتح أزرار فمك"31.
_"صرصور
عربي تعيس"32
_"هناك
مهام لا يستطيع أحد القيام بها: التسكع والتثاؤب وتعميم العمش"33
  إن هذه النماذج وغيرها تخترق كل مألوف وتستفز القارئ
وتحتال عليه وتوهمه بالضحك لكنها تشي في عمقها بالتحولات التي أخضعها الكاتب  لبنية اللغة فولد
منها تراكيب جديدة غير مألوفة لكنها لم تُخلِّ بجمال
اللغة، بل أكسبتها لمحة أكثر جمالا وإشراقا نبع من غموضها  فهو عندما يقول :"هل وجدت اسمك؟"يشعر
القارئ مباشرة بأنه سيدخل عالما مختلفا وسيركب قاربا بلا مجدافين،  عالم تُزهق فيه الكلمة بدل الروح ويعوي فيه القمر
ويصير فيه للفم أزرارا بدل أسنان ومن أهم مهام الشخصيات التسكع والتثاؤب ..عندها
يشعر القارئ الواعي بأن المصيبة أكبر وأن واقعه هو المعني بهذا الانقلاب وأن الرجل
العربي أصبح حقًا "مجرد صرصور بائس "لا يحسن إلا الأنين فـ"لم كل
هذه التمويهات؟"
إن هذه
التراكيب وإن كانت بسيطة لكن استعمالها يُربك المتلقي، كما أنها توضح موقف الكاتب
الوجودي ورؤيته وعمق أفكاره دون أن يُهمل الجانب الجمالي للتركيب، فهو عندما يوظف
الفعل تساقط في السياق التالي:" رأى الوقت يتساقط أمام
عينيه"يبهر القارئ فهل يمكن للوقت أن يتساقط وهو شيء حسي لا مادي هكذا عرفه
القارئ منذ الأزل ؟ يمكنه أن يصدق كل معقول 
وأن تتساقط كل الأشياء إلا الوقت لكنه في عُرف السعيد بوطاجين قد تساقط دون
أن تسقط جمالية الكلمة، بل زادت لمعانا ووزنا وقيمة وشحنة دلالية عميقة...إنه
_الكاتب_ باختراقاته هذه حافظ على مرونة الكلمة وفتحها على أفق غير محدود من خلال
المعاني المكتسبة الجديدة والمؤولَ إليها.
   أخيرا، من خلال هذه القراءة في المجموعة
القصصية (وفاة الرجل الميت)للسعيد بوطاجين يظهر أن الكاتب مهووس بهاجس تجاوز كل
مألوف ومُستعمَلٍ ومبتذَلٍ في الّلغة لأنه كناقد 
عاشر النصوص  يدرك تماما أن النص
الأدبي جَسدٌ مشكل من علاقات إشارية وصور جمالية ذات دلالات رمزية ومعانِ بدلالات
متناسلة ...بهذه التشكيلة المعقدة يستفز ذوق القارئ ويجعله يتسلح بالمرجعية
اللغوية والثقافية ليكون بحجم النص لأنه يستدعي كثيرا من التأويل والكشف
والاستجلاء حتى وإن كان هذا النص ساخرا فإن سخريته لا تُؤتمن وإن كانت الكتابة
الإبداعية إبحاراً في عوالم مختلفة، وبحثا مستمرا عن الحقيقة فإن اللغة أيضا عند
السعيد  بحث "عن
الطاقة الكامنة في الّلفظ، كما يفعل الشعراء الجادون. هناك دائما إمكانات تعبيرية
وشحنات دلالية يمكن استثمارها تأسيسا على الحفريات وتفعيل الطاقة الذهنية. يمكن
للسياقات أن تمنح الكلمة قوّة تأثيرية أخرى، معنى آخر. وهناك المفارقات التي اشتغل
عليها لتعليق المتلقي بمجانبة أفق الانتظار أو خرقه. أرى ذلك مهمّا وذا قدرة على
إثارة أسئلة تجعل النص حيّا، قابلا لمجموعة من القراءات التي تهتم بالمعنى والشكل
الناقل له. "34
هكذا جاءت تراكيب الكاتب غير مألوفة مع الإشارة أن هذا الخرق في اللغة لم يدخلها في متاهة التجريد والتكلف والصنعة اللغوية بغرض التعجيز، وإنما تعالت اللغة في نصوصه عن كل مُبتذل ومُجتر ومُتكلف... فساهمت بدورها بتمييز أسلوب الكاتب كما رفعت النص إلى مستوى الأدبية وفتحت أفق القراءة لدى المتلقي وشرّعت باب التأويل على مصراعيها وكتبت للنص الخلود.
الهوامش: 
1_جورج لوكاش،نظرية الرواية ترجمة الحسين سحبان،منشورات التّل،1988،ص،70
2_محمد العمري، البلاغة الجديدة بين التخييل والتداول، افريقيا الشرق، الدار
البضاء,200،، ص،97.
3_السعيد بوطاجين,وفاة الرجل الميت ,دار الأمل للطباعة والنشر والتوزيع
,تيزي وزو ,الجزائر,قصص قصيرة,ط 2. 2005. ص.
4_الرواية,ص,81.
5_ عبد السلام أقلمون ,الرواية والتاريخ,دار الكتاب الجديدة
المتحدة,بيروت,ط 1 .2010.ص,199.
6_الرواية ,ص,11.
7_الرواية ,ص,107.
8_الرواية.ص,108.
9_سيزا قاسم,المفارقة في القص العربي,فصوله,م2,ع2, 1982 ,ص, 144.
10_الرواية ,ص,
11_الرواية,ص,185.
12_الرواية ,ص,152.
13_ عبد السلام أقلمون ,الرواية والتاريخ,ص,203.
14_الرواية ,ص,16.
15_الرواية,ص,178
16_الرواية,ص.180
17_الرواية,ص,94
18_رشيد بن حدو,جمالية البين بين في الرواية العربية.منشورات مؤسسة نادي
الكتاب بالغرب ,ط 1 .2010 .ص,278.
19_ رشيد بن حدو,جمالية البين بين في الرواية العربية.ص. 279.
20- الرواية.ص, 76.
21_ الرواية,ص, 123.
22_ الرواية,ص, 123.
23_ الرواية,ص, 163.
24_الرواية,ص, 175
25_الرواية.ص,21
26_الرواية,ص,73
27_الرواية ص,73.
28_الرواية ,ص,97.
29_الرواية ,ص,98
30_الرواية ص,101.
31_الرواية,ص,110.
32_الرواية,ص,129.
33_الرواية ص.141.
34_ في حوار أجراه معه : نور الدين
برقادي ,جريدة النصر الجزائرية,السبت 5 أكتوبر 2013 الموافق ل 29 ذو
القعدة 1434 العدد 14197
 
 



 

