/

مقالات نقدية

أنتولوجيا الابداع

هوامش الإبداع

زمن القطران قصة قصيرة بقلم الأديب محمد مصطفاوي

قصة قصيرة زمن القطران.......

رياح منتصف هدا الشتاء الباردة بدأت تعصف...تشبه في صوتها الأنين أنينا جماعيا منكسرا...و جبل النار....تحول الى كتلة هائلة من بياض الثلج و قد بدا دلك البياض العظيم من خلال دائرة تحليقه على مستوى كل امتداد المدينة.....قطرات المطر راحت تتزاوج في ثنائية مع البياض في الهبوط......المطر و الثلج....المدينة دنيا من مطر..و الثلج تنزل أكوامه على الأرض....فوق قرميد البنايات..و على الشجر....نا كان المطر يهبط علينا دون أن يتراءى لنا هدا البياض الثلجي الرائع.......و لم نكن نشعربه و هو يتراكم بتلك الكمية الهائلة الا حينما نرفع رؤوسنا الى الأعلى...أعلى ما في المكان لنرى قمة بياضه و هي تحاصرنا من أعالي جبل النار.........
المدينة تنام تحت حلقة هدا الجبل ببياضه هدا الشتاء...و في أولى تباشير هده الصبيحة الشتوية العاصفة توغلت حركة لمداخل المدينة و وسطها...في البداية كانت على شكل أصوات متداخلة و هي تتسرب من مكبرات الصوت....لحظات و تطورت الحركة..صرنا نراها في هرولة بعض الأشخاص الى ناحية الجدران....و صوب زجاج بوابات المقاهي....في أيديهم ملصقات ما يثبتونها على تلك المساحات الفارغة..فجأة ظهرت عشرات السيارات على الطريق الرئيسية في طوابير غير منتظمة مطلقة صفاراتها بشيء من الازعاج و هي مغطاة على طولها بأجزاء من أقمشة ...كانت صورة الحركة قد أكتملت و هنا بدأ الخلق الكثير المتطفل يزحف ناحية الجدران لتبيان ما كتب على الملصقات....ثم أتسعت الأمواج البشرية الى أبعد مداها....لتتجمهر كلها حول الطريق مندفعة كالشلال لؤية ما يحدث بالتحديد.....كنا مع من شق طريقه وسطهم بعناء خرافي...و قرأت معهم ما كتب على تلك اللا فتات.........انتخبوووا على سالم البرهوش.....أمل الغد.....و على لافتات اخرى......سالم البرهوش للاعلام.....سالم البرهوش للمقاولات العامة.....و شاهدت أكثر مئات الصور له...تطل من نوافد السيارات.و أيدي تلوح بها....
في مكتب فخم..كانت صورة كبيرة معلقة في أكثر من مكان...هي نفسها صورة لرجل واحد و كان صاحبها يجلس وسط جموع من الناس على أريكة حريرية فاخرة...و مثل أي رجل في مواصفاته يحتل نصف المكان.....ضخم الجثة....مسحة الوجه أقرب الى كرة حمراء من الدم....يتميز بارتفاع قامته عن الاخرين.....كان يغطي هدا الثقل بلباس بدوي يضع فوقه برنوسا أنيقا أضاف له الكثير من الوقار.....هو هدا الرجل.....الدي كتبت اسمه الاعلانات.....سيد المدينة الراهن و حنفية المال التي تسيل بالعطاء و منها تبسط اليد القوية سلطتها على مداخل و مخارج المدينة كما كان يقول دائما رجاله ؟؟؟؟؟؟؟؟ في تلك اللحظة التي ركن فيها الجميع الى الصمت لما جاءتهم اشارة من الرجل ..و الكل يحدق وسط المكان...تنحنح الرجل الكبير...عبث بالسبحة.....ثم خاطبهم......... ......اقصدوا رؤساء العشائر......افتحوا جيوبهم على اخرها بالأموال...هدا الصبي المتعلم الدي وضعوه في طريقي أريد ان أراه مسحقوا ليلة فرز الأصوات.....أفهمتم.....اسمي لا بد أن يردده جبل النار ؟؟؟؟؟؟؟
جمع جثته البدنية الهائلة و قام من جلسته...فقامت معه الجماعة....أقترب منه أحدهم..ألتصق به ثم أنحنى أكثر مما يجب....همس له بصوت خافت فيه الخوف اللا هث......البهجة يا سيدي.....أنتهى الأمر كما تحب...و المهم أن اسمه على كل لسان....هو الفاعل ؟؟؟؟؟........قالها الرجل الهامس لسيده و أنسحب قليلا الى الوراء.....فتح الاخر درجا من المكتب....بسرعة..قطع ورقة ما من دفتر..رسم عليها بعضا من الأصفار ثم دفنها في صدر الاخر......أما ملامح الرجل الكبير فقد أنفرجت أسارير وجهه...و أطلق ابتسامة انتصار عريضة........تهيأ للحركة..ضرب بجناح برنوسه الأنيق على صدره ليضعه في حالته الطبيعية....و خرج من المكتب و خلفه رجاله يتبعونه كالظل......
شوارع المدينة الان تخلو من الحركة....الصخب و الغليان في كل مكان...و كأن بفوضى المدينة أنتقلت الى خارجها...في الضاحية الشمالية....كانت عربات الشرطة و حشود الناس تغطيان كل شيء...أستطعنا أن نتوغل داخل احدى الحلقات البشرية......أستمعنا الى أحدهم..كان يتحدث بهلع ظاهر.........وجدوها هناك.....هل تشاهدون الكوخ القصديري الدي هو على جانب الشجرة التي هي في اخر الطريق.هناك...أنظروا الى هناك....وجدوها ممزقة الثياب...مقيدة من الخلف....تسبح في بركة من الدماء..المسكينة قبل أن تقتل أغت...........؟؟؟؟؟........يقاطعه أخر.......يقولون أن النجداوي هو من فعلها ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ كنا ننتقل الىأكثر من حلقة...و كانت قصة الحادثة بأكثر من تفاصيل مختلفة....و تجمع على قول واحد.....النجداوي هو القاتل.....هو المغتصب...........أنتفضت الحلقات و تحركت فجأة نحو مصدر اخر....و هي تشير الى مكان اخر....كانت ثمة مجموعة من رجال الشرطة تحيط برجل....و هو يحاول عبثا أن يرفع يديه المقيدتين بالحديد الى الناس ..و هم يزحفون كالاعصار المطبق نحوه.....كان الرجل يزحف الى العقد الثالث من عمره ..تشع من وجهه مسحة هادئة من نباهة.....و كان يضرخ.......نعم...رأيناه يصرخ فينا.......
....أنا ما لطخت شرف البهجة.....و لا لطخت شرف المدينة.....هي جاءتني فقط لأجل أن تقول لي هده الكلمة....أنت قلبي يا نجداوي..و أنت قلب المدينة...أنت معا...فلا تخف.....ستكسر بهما قطعا..قلب البرهوش....قلب الظلام....و أنتم ايضا من يقول دلك.....أنا لم أفعلها....كيف لي أن أقتل البهجة....كلاب البرهوش من فعلتها..و الرهوش وراء الجريمة..أنا مخدوع يا ناس..و البهجة مخدوعة...... و الكل مخدوع في المدينة......؟؟؟؟؟؟؟ و تدافعت الأيدي المتجمعة حوله لتفتك به....غير أنه حمل بأعجوبة داخل العربة ثم تبعتها عربات اخرى...طاردته اللعنات من خلف بابها.....بالكاد خرجت من زحام المكان و صوت الرجل المحبط الثائر في الناس...
و حقق الرجل الكبير ما كان يريده...بعد أن هزت تلك الحادثة وجدان الناس....قربتهم أكثرالى قلب سالم البرهوش ...أستطاع الرجل أن يحتل كرسي المدينة...و كنت أراه و هو يتبختر ببرنوسه الأبيض الأنيق كحمام الأوز....و يقول عند دائما حسب رواية أتباعه التي حفظوها عنه....البرنوس كان هدية أحد كبار أعيان داك الزمان لوالده كبير أعيان هدا الزمان....؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ و عرفنا بعد دلك لمادا كان جذي لا يطيق سماع سيرته.... و لا رؤية خلقته....وم يغضب كثيرا و يلوح لنا بعصاه كلما جاء البرهوش في عرض أحاديثنا و يردد عبارته الشهيرة....... اصمت أنت و هو......ايه يا زمن.........نعم الان تدكرت...عبارة جدي ايه يا زمن....؟؟؟؟...كان البرهوش.. يجلس القرفصاء مند كدا سنة أمام باب السوق بثياب رثة لا تكاد تستر لحم جلده النحيل..و يضع بين ركبتيه قربة أو قربتين......و اناء كبير يصب منه القطران...و كنا نحن الأطفال نشتري منه في اليوم الواحد.. أكثر من مرة القطران اشفاقا لحاله....في سنوات قليلة معدودة لم نعد نعرف الرجل.... هناك من أدخله في سوق اخرى.....ذخل في الرزق المشبوه و صار جبارا..من الجبابرة.....صعذ بسرعة.....
في يوم ما.....لا يشبه مدينتنا اطلاقا...خرج النجداوي من عتمة السجن.الى صوء الدني.....أطلقوا سراحه بعد سنوات طوال..مشى حتى وصل الى ساحة المدينة..وجد كل شيء و قد تغير.....ظل واقفا في وسطها...يلتفت يمينا و شمالا....و يدور في حلقة مفرغة في الهواء...أخرج من كيس كبير كان يحمله معه..أوراقا ثبت بعد وقت قصير انها كانت شهاداته الدراسية العليا..و أحرقها....أشعل النار في ما كان يملك....؟؟؟؟كانت النار تلتهم الورق و االدخان يتصاعد خيوطا كثيفة صوب السماء...و بعذ أيام.....سمعه العديد من سكان المدينة يسأل عن القطران.....في أكثر من مدينة يرحل اليها.......و كانوا يجيبونه..باستغراب.......لقد أنقرض القطران من زمن طويل و ضاع صناعه........ثم يشيعونه بنظرات الشفقة و العزاء.......
لبث الصوت الدي كان يتحدث للناس يوم قتلت البهجة هو داته الصوت المحبط يتكرر في مدن اخرى..يجوب صاحبه المسافات......يحمل قربة قديمة و يصرخ......قطران لماء القرب...قطران....قطران....قطران.............

                                                     

21 أبريل