/

مقالات نقدية

أنتولوجيا الابداع

هوامش الإبداع

القصة القصيرة جدا والايجاز الملغوم بقلم زهز كرام


القصة القصيرة جدا والايجاز الملغوم *

عندما نقرأ عملا أدبيا، نفكر في البداية في أدبيته، قبل التفكير في نوعه. والتفكير في الأدبية، يختصر معنى الميثاق الذي يؤسسه الأدب مع قارئه. كيفما كان القارئ.. 
مرتبطا بنظرية الأدب، له دراية معرفية بمعنى الأدب، وبنظرية القراءة، وبالعلاقة بين الأدب وتلقيه، أو يوجد خارج هذا الوعي النظري للأدب، لكونه لا يطلب من الأدب دلالات رمزية، إنما حاجته للأدب، تتوقف في طلب المتعة الفنية والجمالية، والاستمتاع بالحكاية إذا كان العمل رواية أو قصة، أو بالإيقاع كما في القصيدة الشعرية، فإنه أي القارئ- يطلب تحقق التخييل. ولعل تاريخ القراءة لدى كل قارئ، يكمن وراء دعم هذا الميثاق، وتمكين القارئ من الإحساس/الوعي بأدبية الأدب. قد يرفض قارئ عملا، ويُخرجه من منطقة الأدب، إذا وصله إحساس بالزيف، والتقريرية، بدون أن تكون لهذا القارئ خبرة نقدية بماهية الأدبية. فالتأكد من الهوية الأدبية لعمل ما، إحساسٌ لدى بعض القُرَاءِ، ولكنه، خبرةٌ ودُربة معرفية لدى القراء المتخصصين، وهذا راجعٌ، لكون الأدب مثل كل الخطابات، يقترح مجموعة من التعاقدات مع شُركائه. من بين أهم هذه التعاقدات، أن الأمر يتعلق بالأدب، أو ما يمكن تلخيصه في هذه الجملة «الأدب هو أفقٌ». لهذا، يحضر سؤال الأدبية، لدى مختلف القراء، وحسب مستوياتهم الثقافية والتعليمية، عند أول لقاء بالعمل الأدبي، بدون أن يعني ذلك، انشغال كل القراء بالدرجة نفسها بمفهوم «الأدبية»، أما سؤال النوع، فإنه يأتي لاحقا، و»قد» يخفت لدى القارئ العادي، الذي لا تتجاوز حاجته، المتعة الفنية، والبلاغة الجمالية والإيقاع الموسيقي ولغة الصور في حال الشعر، والحكاية القصصية مع الرواية والقصة القصيرة وغيرهما، في حين يصبح سؤالا جوهريا لدى القارئ المعرفي، أو الذي يحضر الأدب عنده محور التفكير والتحليل والبحث. لذا، تتميز نظرية الأجناس الأدبية بالحركية المستمرة، تبعا لاختلاف وتجدد نظام الأدب.
ما يدعو إلى مثل هذا التذكير المعرفي، بالعلاقة بين سؤالي الأدب والجنس/النوع الأدبي وقارئ الأدب، هو وضعية الشكل الأدبي السردي «القصة القصيرة جدا» في المشهد العربي، والالتباس الذي يرافق بعض الأعمال، التي تحضر تحت توصيف/تجنيس «ق ق ج»، ويغيبُ عنها، أهم تعاقدٍ يُعلنُه الأدب باعتباره خطابا، ويدعو إلى جعله أفق انتظار القارئ، وهو التخييل المُنتظر، الذي يُعمق زمن الانتظار المفتوح على الاحتمالات اللامحدودة، عكس الكتابات التي يتعثَر فيها التخييل، أو يتقيَد بقرار مُسبق، أو هدفٍ مُحدد للكتابة، مثلما نجد مع المذكرات واليوميات، وأيضا مع الأعمال التي يتحكم فيها وعي الكاتب في تدبير نظام الكتابة الإبداعية، من أجل تمرير فكرة أو تصور أو حالة، مما يجعل التخييل ينزاح، ويحول الكتابة إلى مجرد حكيٍ لوعي قائم، كما نجد مع ما يسمى خاصة في الرواية» برواية الأطروحة». إنه وضعٌ، بات يفرض الوقوف عنده، وإعلان الموقف من بعض تجاربه التي أصبحت بكثرتها وانتشارها ودعمها عبر الكتابة عنها- تفرض نفسها، بقوة تداولها،على المشهد، وتفرض مع غياب مرافقتها نقديا ومعرفيا، مفهوما جديدا للأدب الذي يصبح مجرد تركيب لكلمات منتهية الصلاحية في حينها. عندما يظهر جنس أو نوع/شكل أدبي في زمن الكتابة الأدبية، فلا يعني الأمر، مجرد تغيير في مساحة الكتابة، أو عبارة عن ترتيب مُخالف لنظام الكتابة السابقة، إنما الشكل الأدبي خزان لرؤية، تصوغ معنى تحولات تعيشها المجتمعات/الأفراد في علاقة بنيوية مع تحولات تاريخية، وتلعب اللغة الإبداعية دورا وظيفيا مهما في عملية تشخيص هذه الرؤية، بدون أن يعني ذلك، إحداث قطيعة مع تجارب الكتابة في أشكال/أجناس أدبية مألوفة. 
عندما ننطلق من التوصيف البسيط، ولكن الوظيفي للقصة القصيرة جدا، باعتبارها قصة خيالية وإيحائية، تعتمد الاقتصاد وليس التلخيص في الحكاية، والفرق شاسع بين الاقتصاد والتلخيص، ثم الإيجاز في الجمل والكلمات، مع عمق في اللغة، واستثمار وظيفي للكلمة الشعرية، فإن تلك التوصيفات عبارة عن إجراءات أدبية، كل علامة تحقق بتفعيلها اقترابا ممكنا من «ق ق ج»، ويمكن اعتمادها، للوعي المعرفي بالهوية الأدبية لـ«ق ق ج»، وذلك في حدود الفهم التبسيطي لأي نص أدبي. يعد الخيال مُقوما جوهريا لتحقيق هذا الشكل الأدبي، ويرتبط بهذا المُقوم عنصر الإيحاء، باعتباره من أهم المظاهر التي تحدد طبيعة، ووظيفية اللغة الإبداعية التي تنزاح عن اللغة التواصلية اليومية، لتجعل الحكاية الخيالية منفتحة على الاحتمال في الدلالات، مما يستوجب عنصر التأويل الذي يأخذ الحكاية إلى مساحات واسعة ومفتوحة، وذلك بطريقة السرد، ومنطق التشخيص. لهذا نتحدث عن القصة/الحكاية ثم الخطاب، ونركز- نقديا- في هذه الثنائية على الخطاب، باعتباره الصيغة التي تحقق سردية القصة. 
وإذا كانت صفة الإيجاز التي تُحدد مساحة «ق ق ج»، قد تُعطي الانطباع بسهولة إنجاز هذا الشكل السردي، فإن مظهر الإيجاز يضع كاتب القصة القصيرة جدا أمام أكبر تحد. كيف يمكن للكاتب أن يحقق هذه المُعادلة الصعبة، بين كتابة قصة خيالية بإيجاز، مع اقتصاد في التعبير، وعمق في اللغة، وقوة في الإيحاء؟ إلى أي حد يمتلك الكاتب خبرة التصرف في مساحة وجيزة، لتفجير خطاب رمزي دال؟ إن تأمين تحقيق هذه المُعادلة، يبدأ من لحظة الصدق مع الكتابة الإبداعية، باعتبارها زمنا يُؤمن انخراط الكاتب في منطقة التخييل. تشكل هذه العلامات وغيرها، أهم مظاهر تحقيق أدبية أدب القصة القصيرة جدا. هناك أعمال تحترم شرط هذه العلامات، وتنتج نصوصا مبدعة للنوع السردي «ق ق ج»، وتُطور التعبير في هذا الشكل، كما تنتج بتراكم نصوصها، حالة إبداعية منتجة لرؤية عن طبيعة الفرد في هذا الزمن. بالمُقابل، بدأت الساحة تمتلئ نصوصا، ترد تحت تجنيس القصة القصيرة جدا، لكنها، تفتقد لأفق انتظار الأدب «التخييل». 
ولعل من بين عناصر خلل تجربة هذه الأعمال، أنها تأتي قريبة من شكل الخاطرة، أو الحكمة، أو المثل، وهي عبارة عن تعبيرات آنية عن فكرة أو انطباع، تعتمد اللعب باللغة، مع الاستعانة ببعض الأساليب البلاغية التي تُحدث إيقاعا، لكنها، تظل تجربة حكي منتهية في مساحة الإيجاز، غير مفتوحة على التبليغ الإيحائي، الذي يجعلها أكثر اتساعا وانتشارا وانفتاحا على التأويل. ويظهر هذا الأفق المخنوق لهذا النموذج من هذه النصوص، في طبيعة اللغة المحدودة، التي تفتقر إلى العمق والامتلاء الدلالي والتكثيف الرمزي، ثم وضعية نهاية القصة، التي تأتي مرة عادية، مثل نهاية جملة تنشد المعنى، كما في الحياة اليومية، وأخرى تكون عبارة عن تحصيل حاصل لترتيب الحكاية، في حين تحضر النهاية في «ق ق ج» عنصرا جوهريا، لكونها تحمل ثقل قوة تفجير اقتصاد النص. 
جميلٌ أن تحظى «ق ق ج» باهتمام الكتاب، وتصبح موضوعا للملتقيات، واللقاءات، لكن، الأجمل، أن تحظى بانشغال معرفي- فني في ممارستها، حتى تصبح شريكا حقيقيا لبقية الأشكال التعبيرية الرمزية في إنتاج الرؤية للعالم، وحتى تتحول إلى موضوع لإنتاج وعي بما يحدث في الزمن. ولهذا، يصبح الخوف من انزياح «ق ق ج» عن تعاقدات الأدب، انزياحا عن «الأدب – الأفق». يحتاج حجم القصة القصيرة جدا – كما قال مبدع القصة القصيرة إبداعا وتفكيرا أحمد بوزفور، في أحد لقاءاته الثقافية إلى الخبرة، وتعدد التجارب، وهما أمران لا يتوفران إلا لمن عاش زمنا طويلا مكنه من اكتناز تصور ما حول العالم.

كاتبة مغربية

زهور كرام
ــــــــــــــــــــ
*منقول عن القدس العربي