/

مقالات نقدية

أنتولوجيا الابداع

هوامش الإبداع

البشير خلف شموخ الماضي وكبرياء المجاهد بقلم الدكتور عيسى ماروك

البشير خلف : شموخ الماضي  و كبرياء المجاهد

      للعنوان أهمية كبيرة في المقاربات السيميائية، ولكونه أساسيا  على الباحث أن يحسن قراءته وتأويله، ومن ثمّ التعامل معه بكثير من التعمق و البحث، فهو بمثابة عتبة (Seuil) على الدارس أن يطأها قبل إصدار أي حكم([1]). لذا تعتبر العلاقة بين (النص/ العنوان) «علاقة جدلية، إذ بدون النص يكون العنوان وحده عاجزا عن تكوين محيطه الدلالي، وبدون العنوان يكون النص باستمرار عرضة للذوبان في نصوص أخرى» ([2])، ومن هنا اكتست عملية العنونة أهمية بالغة.
وعليه فالعنوان أشبه ما يكون بواجهة إشهارية براقة تشد الأنظار، وبخاصة حينما يكون مغريا، إذ يصنع دعاية كبيرة لذلك الإنتـــاج ؛ لا يوضع على الغلاف مصادفة «إنه المفتاح الإجرائي الذي يمدنا بمجموعة من المعاني التي تساعدنا في فك رموز النص، وتسهيل مأمورية الدخول في أغواره و تشعباته الوعرة» ([3]).
بناء على هذا، قد يكون بالإمكان تتبع عمل العنوان في النص بما أنه حاضر في البدء وخلال السرد الذي يدشنه، ويعمل كأداة وصل وتعديل للقراءة.


أ- سيميائية العنوان الخارجي :
أول ما يلفت انتباهنا أنه دال مفردة ، موغل في الاقتصاد اللغوي والاختزال كما أعطى للعنوان موقعا استراتيجيا هاما، إذ أن «له الصدارة ويبرز متميزا بشكله وحجمه. وهو أول لقاء بين القارئ والنص. وكأنه نقطة الافتراق حيث صار هو آخر أعمال الكاتب وأول أعمال القارئ»([4]). معنى ذلك أنه بذل جهدا  لاقتناء هذا العنوان الموجز، ووضعه في الموقع اللائق به، الذي أعطى بعدا جماليا معينا.
إن كلمة "الشموخ" هكذا مجردة توحي بالعلو والارتفاع  والعظمة من جهة وبالتكبر والبعد من جهة أخرى ، فقد ذكر ابن منظور في الجذر " ش م خ "  في لسان العرب معاني الارتفاع والعلو والتكبر، وجاء في القاموس المحيط : نيةٌ شَمَخٌ: بَعيدةٌ  ومَفازَةٌ شَموخٌ: بَعيدةٌ. 
وإن كان لكلمة "الشموخ" كل هذه المعاني والدلالات، فإن "الحذف" في الجملة الاسمية منحها معان جانبية، ولم يقصرها على دلالة وحيدة - وإن كان التعريف تحديدا - ، وإذا احتكمنا إلى النص الحكائي (محل الشاهد)، نجد كلمة " الشموخ " ترتبط ارتباطا وثيقا ببيئة الكاتب كونها جاءت صفة للنخلة في موضعين  , الأولى نكرة في بداية القصة (...ومازال يقف نخلة تعانق السماء في شموخ ) ([5])وورودها نكرة يفتح باب التأويل واسعا كون التنكير يعني التعدد وعدم التعيين ، وتطفو مجددا الكلمة في آخر القصة (كانت نخلة باسقة في سن السبعين شامخة تشق ما تبقى من جحافل الظلام ...) ([6]) ولاسم الفاعل دلالة ذات شقين شق يفيد الحدوث ، وشق آخر يفيد الثبوت , وفي الجملتين الوصف نفسه زوجين في السبعين من عمريهما لكن السنين لم تنل منهما , ولا من مكانتهما في نفوس الأبناء والأحفاد وما اهتزت  عزة النفس  عندهما. وكأن الكاتب  يحاول أن يمارس علينا شيئا من التمويه، حتى لا نفكك رموزه بسهولة، وليضفي كذلك بعدا غرائبيا على مضامين بعض كلماته، إذ كيف يبقى الجد شامخا والحياة تعانده حتى في الحصول على وظيفة تحفظ ماء وجهه , ومن أين له بالتكبر ونصيبه في  الحياة أن يقف حارسا على باب مسؤول بيروقراطي  ؟
فإلى أي مدى كان "الشموخ" كعنوان وفيا للنص الحكائي ؟ وهل تصدق عليه مقولة: "الظاهر عنوان الباطن" ؟...
ب- سيميائية العناوين الداخلية (الفرعية):
       تضمنت القصة أربعة عناوين فرعية توزعت على خمس صفحات.
      حمل الجزء الأول عنوان "خلود " ، وهو العنوان الفرعي الأول المفتتح للنص القصصي، ويواصل الكاتب فيه الحذف  الذي يدفعنا للبحث في ثنايا النص لفك شيفرة العنوان الذي يحمل دلالة عميقة على البقاء والدوام والسكون  والرضا , إذ أن الخلود يجسده الشهيد الذي قدم روحه قربانا ليبقى الوطن شامخا شموخ جباله التي آوته – أليست الخوالد من أسماء الجبال؟؟-  وهو الرضا الذي يعمر قلب الشيخ أبي الشهيد على فلذة كيده الذي غُرس (شجرة خالدة ) ([7]) و لأن للشجر فوائد جمة فهو لم يطمع في غير دوام الذكر ولكن المفاهيم تبدلت والزمان غير الزمان أصبحت فيه الشهادة " توصية " تفتح بها الأبواب الموصدة وهو العنوان الذي اختاره الكاتب للوحة الثانية، ولأنه (في أحلك أيام الثورة التحريرية... ما سلم الجد في العمل...) ([8]) لم تكن التوصية إلا لعمل (مريح لا يتعدى حراسة باب المسؤول الأول بالإدارة) ([9]) وأي راحة تمتهن كرامته وهو الذي (كان نخلة قوية ترتفع هامتها في كبرياء إلى عنان السماء) ([10]) , كيف يغلق الباب في وجوه أصحاب الحاجات , وهل استشهد ابنه لأجل أن تعود الحقوق لأصحابها فيقف هو منتصبا يصدهم عنها ؟؟ سؤل تركه الكاتب معلقا . وفي ذلك إيحاء ببداية الانتقال من مرحلة إلى أخرى تبدو أكثر وضوحا .
أما اللوحة الثالثة، فتحمل عنوان "رائحة الماضي " ، والدلالة الايحائية لهذا العنوان تنفتح على المآثر والأمجاد التي سطرتها ثورة التحرير من جهة ،وعلى جرائم الاستعمار وفظائعه من جهة أخرى , فالشيخ الذي وقف كالطود الشامخ أثناء الثورة (سلاحه عزة وكبرياء , زاده همة وإباء) ([11])  رغم ما ابتلي به أثناء ثورة التحرير , ظل شامخا كنخلة في الفلاة لم ينحني لأجل بطاقة تموين ولم يتذلل لأجل بطاقة سفر مجاني أو علاج.
ويختمها بلوحة رابعة حملت عنوان " نور الفجر" وفي تأكيده لمعنى الضياء الطي تضمنته المفردتين إصرار على مقاومة جحافل الظلام الذي يمثله المستعمر واستبشار بالصبح الذي أشرق بتضحيات جسام صبح طال انتظاره من " الجميع بلهفة وشوق تربة معطاء ".


 ولا يخفى  الخيط الدقيق الذي يربط بين المشاهد الأربعة فالخلود الذي وهبته الشهادة للابن أشعر الجد بالكبرياء و علو المكانة مما جعله يرضى بعيشته ويقنع بها زاهدا في مزايا هي من حقوقه كونه أبا لشهيد رافضا كل توصية ,متشبثا بالماضي ومآثره , مستذكرا تلك الأيام الجميلة التي كانت الأرض فيها رهن إشارته تفتح له خزائنها كلما طرقها فأسه ,ولأن الشموخ ابتعاد جاءت اللوحة الأخيرة لتصور فجيعته في رفيقة دربه التي غيبها الموت وأبعدها .
إن الكاتب قد اختار عنوان قصته بعناية فائقة، جعلت منه مدخلا أوليا للولوج إلى النص وسبر أغواره لا من خلال أفق التوقع الذي يفتحه فحسب، و إنما جعله يرافق المتلقي والقارئ كنص موازي يتقاطع مع المتن الحكائي ليفكك بعض شفراته التي قد تستعصي عليه أثناء تدرجه مع عتباته عمقا ، وهو ما منح العنوان قوة من خلال لغته المشكلة له، التي تعبر بصدق وبعمق وبوضوح عن رؤية الكاتب  لصراع الحياة وتقلب صروف الدهر وطغيان المادة  ، كل ذلك يجسده شموخ الجد بما حمل من دلالات حافة ، ولأن « الأرواح الطاهرة تنير لهم الدرب » لدلك ما كان لـ « المسؤول الباب في وجوههم » لأن«خدمة الأوطان والإخلاص لها سلوك فطري لدى النفوس الحرة »  التي « تمشي بخطى ثابتة في اتجاه الشمس»([12])، تلك هي رمزية الشموخ في خلود الشهداء والاعتزاز بالنفس والانتصار للحق دون وصاية لأحد على أحد واعتزاز بالماضي المجيد الذي جسدته الثورة ليبزغ فجر الاستقلال على الجزائر.




([1] ) سيميائية العنوان في مقام البوح لعبد الله العشي   ص 270
([2] ) الطاهر رواينيه: "الفضاء الروائي في الجازية والدراويش لعبد الحميد بن هدوقة- دراسة في المبنى والمعنى"، المساءلة، ع1، ربيع 1991، ص15
([3] ) د. جميل حمداوي: "السيميوطيقا والعنونة"، عالم الفكر، الكويت، مج25، ع23، يناير/ مارس 97، ص90.
([4] ) السيميوطيقا والعنونة ، ص 90
([5] ) بشير خلف , الشموخ , متشورات التبيين الجاحظية , الجزائر ,1999 , ص 4
([6] ) الشموخ , ص 8
([7] ) الشموخ , ص 4
([8] ) الشموخ , ص 5
([9] ) الشموخ , ص 8
([10] ) الشموخ , ص 5
([11] ) الشموخ , ص 7
([12] ) المرجع نفسه ص 7